لابد أن السنوات القليلة الأخيرة كانت مميزة حقًّا بالنسبة لمتخصصي الفلك وعلماء الكونيات في كل العالم؛ فقد شهدت رصدًا لمجموعة من أغرب الظواهر الكونية وأكثرها تطرفًا، سواء من حيث القوة أو المسافة أو الزمن، بعض تلك الظواهر أسهم في تحسين فهمنا لتاريخ هذا الكون، وبالتالي إمكانية التنبؤ بمستقبله.
أبعد نجم في الكون
في مارس 2022 أعلن فريق بحثي من مرصد “هابل” الفضائي التابع لوكالتي الفضاء الأمريكية والأوروبية عن كشف جديد يُعد رقمًا قياسيًّا إضافيًّا للمرصد الذي تخطى عمره الآن الثلاثين عامًا، إذ تمكن من رصد نجم هو الأبعد إلى الآن في الكون كله، حيث يقع على مسافة 12.9 مليار سنة ضوئية من الأرض.
للتوصل إلى ذلك الاكتشاف، استخدم الباحثون ما يُسمى بـ”عدسة الجاذبية”، وهو مفهوم نابع من النظرية النسبية لألبرت أينشتين، يقول إن الضوء الصادر من جرم بعيد -في طريقه إلينا على الأرض- إذا مر على كتلة هائلة، كتجمع للمجرات، فإنه يتشوّه ويتم تكبيره، بالضبط كما تفعل العدسة بصورة الأشياء التي تقع في خلفيتها.
سُمي النجم الجديد إيرندل (Earendel)، وهي كلمة تعني “نجم الصباح” في الإنجليزية القديمة، النجم المكتشَف له أرقامٌ قياسيةٌ أيضًا في أشياء أخرى مثل كتلته التي تبلغ أكثر من كتلة الشمس 50 مرة، ودرجة حرارة سطحه التي تزيد عن 20 ألف سيليزية، بينما تبلغ درجة حرارة سطح الشمس حوالي 6 آلاف درجة سيليزية فقط.
النجوم البعيدة جدًّا في المسافة والزمن إلى هذا الحد تكون ذا تركيب مختلف عن النجوم المعاصرة، ما يعطي العلماء فرصةً مهمةً لفهم تطوُّر نشأة النجوم في هذا الكون الفسيح.
ثقوب سوداء هائلة حقًّا
أما برنارد كار ورفاقه، من جامعة كوين ماري في لندن، بريطانيا، فقد قادوا دراسة صدرت في فبراير 2021 للكشف عن أكبر كتلة من الممكن أن يصل إليها ثقب أسود في هذا الكون، ليتوصلوا إلى أن هذا الرقم يساوي كتلة حوالي 100 مليار شمس.
لهضم ما يعنيه الرقم، فقط تخيّل أننا قررنا أن نعد من 1 إلى مئة مليار، بلا توقف، هنا سنأخذ وقتًا مقداره 3200 سنة! هذا ولم نتحدث بعدُ عن كتلة الشمس نفسها، والتي لو كانت إناءً كبيرًا لاحتوت حوالي مليون وثلاثمئة ألف كرة زجاجية بحجم الأرض، نتحدث هنا عن كتلة -وبالتبعية حجم- لا يمكن حتّى تخيُّله بسهولة.
لكن يبدو أننا لم نصل بعدُ إلى رصد هذه الكتلة، فأكبر الثقوب السوداء المرصودة إلى الآن يصل حجمه إلى 66 مليار كتلة شمسية، ويوجد في داخل الكوازار “تون 618” TON 618 في مركز إحدى المجرات.
تنتشر الثقوب السوداء في المجرات في أماكن مختلفة، لكن في قلب كل مجرة يوجد ثقب أسود عملاق Supermassive black hole مثل ثقب “تون 618″، تكون تلك المنطقة نشطةً للغاية في بعض المجرات، حيث الثقب الأسود العملاق والمادة المحيطة به في حدث كوني فائق الفاعلية، لدرجة أن تلك المنطقة في نواة المجرة قد تلمع أكثر من مجرات أخرى كاملة متكدسة.
هنا على الأرض أمكن للفلكيين رصد تلك الحالات الخاصة جدًّا، وتسمى بالنجوم الزائفة Quasars أو الكوازارات، وهي مجرات بعيدة جدًّا لا يظهر منها سوى قلبها النشط، يقع “تون 618” على مسافة حوالي 10.5 مليارات سنة ضوئية!
أشرس الانفجارات النجمية
وعلى مسافة حوالي ساعة ونصف بالسيارة من جامعة كوين ماري، كان الباحث مات نيكول ورفاقه من جامعة برمينجهام البريطانية قد تمكنوا من تأكيد رقم قياسي جديد في عالم الانفجارات النجمية، إذ سُجل المستعر الأعظم “إس إن 2016 إيه بي إس” (SN2016aps) في أبريل 2020، بوصفه أقوى حدث كوني من هذا النوع إلى الآن.
كَم الطاقة الذي أخرجه هذا الانفجار يساوي 10 أضعاف مقدار ما ستنتجه الشمس من طاقة منذ لحظة ميلادها وخلال عمرها كله! ويُعتقد أن كتلة النجم الذي انفجر ليصبح المستعر الأعظم “إس إن 2016 إيه بي إس” تساوي كتلة أكثر من 50 شمسًا.
والمستعرات العظمى هي المرحلة النهائية في حياة النجوم هائلة الكتلة، إذ يعيش النجم حياته في حالة استقرار بين قوتين: الأولى هي الطاقة الاندماجية الهائلة الناتجة من النواة وتضغط إلى الخارج، والثانية هي قوة الضغط إلى الداخل الناتجة من كتلة النجم الهائلة، لكن في نهاية أعمار تلك النجوم يتوقف الاندماج النووي، ما يدفع النجم إلى الانهيار على ذاته متسببًا في انفجار هائل يحدث خلال كسر من الثانية!
في لحظة انفجاره، انطلقت المادة من المستعر الأعظم “إس إن 2016 إيه بي إس” بسرعة حوالي 4600 كيلومتر في الثانية، الأغرب من ذلك أن الانفجار لا يزال قائمًا إلى الآن، على مسافة حوالي 3 مليارات سنة ضوئية من الأرض، ويمكن للعلماء مراقبته يومًا بعد يوم، تنطوي هذه الحالات الكونية المتطرفة على فيزياء فريدة من نوعها يتحرق العلماء شوقًا إلى فهمها، ويُعتقد أن التلسكوب المُنطلق مؤخرًا “جيمس ويب” يمكن أن يساعد في تحقيق فهم أعمق لهذه الحالات.
أقدم مجرة في الكون كله
خلال الشهر الحالي، أعلن فريق دولي بحثي الكشف عن مرشح جديد محتمل لمكان مهم جدًّا في عالم الكونيات، وهو أقدم مجرة في تاريخ الكون كله إلى الآن، وهي مجرة سميت “إتش دي 1” HD1 وتبعد عنّا حوالي 13.5 مليار سنة ضوئية، يعني ذلك أن الضوء الواصل منها إلى عدسات التلسكوبات الأرضية والفضائية التي أسهمت في الكشف كان قد قطع زمنًا قدره 13.5 مليار سنة.
في عام 2016، تمكَّن مرصد هابل الفضائي من التقاط صورة للمجرة “11 جي إن -زد” “GN-z11″، التي اعتُبرت آنذاك أقدم المجرات، إذ تقع على بُعد 13.4 مليار سنة ضوئية، فقط بعد 400 مليون سنة من الانفجار العظيم، مما يعني أن هابل قد التقط صورةً للمجرة، بينما كان الكون في حوالي 3% من عمره الآن.
في التلسكوبات، تظهر المجرات البعيدة للغاية في صورة بدائية غير منتظمة لا تزال قيد التكوين، ما يعطي انطباعًا بأنها تشكلت ببطء مع الزمن لتتخذ شكلها المعاصر، إلى الآن لا يعرف العلماء آليةً محددة لحدوث عملية تطور المجرات ونموّها، لكن الأرجح أن المجرات البدائية التحمت شيئًا فشيئًا معًا لتصنع مجرات أكبر وأكثر انتظامًا.
أسرع نجوم المجرة
الآن دعنا نسافر إلى مركز مجرتنا، حيث يقبع الثقب الأسود الهائل “الرامي أ*”Sagittarius A* ، الذي تبلغ كتلته حوالي 4 ملايين شمس، في أغسطس 2020 أعلن فريق من الباحثين الكشف عن نجم يدعى “إس 4714” (S4714)، ويدور حول “الرامي أ*” بسرعة تصل إلى 24 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، إنه أسرع نجوم مجرتنا المكتشفة إلى الآن، يشبه في سرعته أن تقطع المسافة بين مدينة الإسكندرية المصرية ومدينة أسوان في الصعيد في 0.04 جزء من الثانية! إنها المسافة نفسها التي يقطعها القطار في حوالي أربع عشرة ساعة على الأقل!
خلال العقود القليلة السابقة، اعتقد العلماء أن النجوم التي تدور حول الثقب الأسود في مركز مجرتنا تجري بسرعات هائلة، وسُمي ذلك النوع من النجوم بـ”سكويزارز” squeezars، ومنها حازت تلك النجوم حرف (S) في اسمها.
في وقت سابق، كان العلماء قد حددوا نجمًا يُدعى “إس 2” S2 الذي سجل في أقرب نقطة له من الرامي أ* سرعةً مقدارها حوالي 9 آلاف كيلومتر في الثانية، منذ ذلك الحين واصل الباحثون دراسة النجوم سريعة الحركة حول مركز المجرة، ليجدوا خمسًا أخرى يبدو أنها تسافر بمعدل أسرع من “إس 2″، منها “إس 4714” الذي يحمل حتى الآن لقب “الأسرع”.
المصدر: للعِلم