كان المشهد فوضويًّا في مجلس العموم البريطاني؛ فبعد أن نجح الفرنسي لويس بلايريو في عبور القنال الإنجليزي بطائرة أثقل من الهواء، انتهزت المعارضة البريطانية الفرصة من أجل شن هجوم شديد على وزير الدولة للحرب ريتشارد هالدن (1905-1912م)، ووجهوا إليه استجوابًا شديد اللهجة يهدف إلى الإجابة عن سؤال: لماذا لم تتوصل بريطانيا إلى اختراع طائرة تساعدها على الدفاع عن أراضيها؟
لم يُجب “هالدن” عن تلك التساؤلات، وقال إنه سبق أن شرح “الآليات التي يجب على الجيش اتباعها إذا ما أراد الطيران.. وما من توضيحات أخرى في هذا الشأن”، ثم شرع من جانبه في التخطيط كي تلحق بريطانيا برَكب الولايات المتحدة الأمريكية التي نجح فيها الأخوان رايت في صناعة طائرة، وفرنسا التي صمم مُهندسها الأعظم “بلايريو” طائرةً قادرةً على عبور المانش.
كانت رؤية “هالدن” أن تصنيع الطائرات يحتاج إلى “العلم”، وأنه لا يُمكن الاعتماد على طريقة “التجربة والخطأ” التي اتبعها كلٌّ من الأخوان رايت وبلايريو، لذا قرر الرجل -حتى قبل أن ينجح “بلايريو” في عبور القنال الإنجليزي- تأسيس لجنة استشارية للملاحة الجوية، مهمتها وضع نظرية موحدة للطيران تُجيب عن التساؤل الأهم: كيف تطير الطائرات؟
ومع تأسيس تلك اللجنة، نستطيع القول إنه قد انبثق عصرٌ جديدٌ للطيران.. عصرٌ يقوده العلم.
ومع تراكُم الخبرات، وبعد إجراء آلاف الحسابات، توصل العلماء -الإنجليز والألمان- إلى نظرية موحدة، يُمكن الاعتماد عليها لبناء شتى أنواع الطائرات، تلك النظرية التي أُطلق عليها لاحقًا “نظرية الطيران”.
تقول تلك النظرية إن الطيور لا تطير فقط عن طريق رفرفة أجنحتها، بل تستخدم الانزلاق على الهواء لقطع المسافات الطويلة، لكن الأمر يختلف بالنسبة للطائرات.
فلكي ترتفع الطائرة في الهواء، يجب إنشاء قوة تساوي قوة الجاذبية أو تتجاوزها، تسمى بقوة الرفع.
في الطائرات الأثقل من الهواء، يتم إنشاء الرفع عن طريق تدفُّق الهواء فوق الجناح، يتسبب شكل الجناح في تدفُّق الهواء في الأعلى بشكل أسرع منه في الأسفل، ويقلل الهواء المتدفق السريع من ضغط الهواء المحيط، ونظرًا إلى أن ضغط الهواء أكبر تحت الجناح من الأعلى، يتم إنشاء قوة رفع ترفع الطائرة.
لفهم كيفية توليد الجناح لقوة الرفع، من الضروري استخدام معادلتين مهمتين للعلوم الفيزيائية، هما معادلة “برنولي” التي تشرح التبايُن في الضغط الذي يُمكن أن تولِّده تيارات الموائع (السوائل أو الهواء) المندفعة، ومعادلة الاستمرارية التي تقول إن حاصل ضرب كلٍّ من الكثافة والمساحة والسرعة لجسم متحرك يجب أن يُساوي قيمةً ثابتةً على الدوام.
وبعد كثير من البحث، استقر العلماء على استخدام نظرية الدوامة الهوائية لتفسير عملية الطيران، تقول تلك النظرية إن قوة الرفع على الجناح تنجم عن فرق الضغوط بين أسفل الجناح وأعلاه، وإن قوة الرفع تتناسب طرديًّا مع قوة دوامية الهواء، استخدم العلماء تلك النظرية للبدء على الفور في تصميم الجناح، فشكل الجناح سيكون له تأثيرٌ شديدٌ على توليد الدوامة الهوائية.
ولتقييم قوة الدوامة، استخدم العلماء معادلات صاغها أحد أعظم رياضيي القرن الثامن عشر، ليونارد أويلر.
تستطيع تلك المعادلات الوصول إلى حلول لحساب القوى الناجمة عن تدفُّق الموائع، لكن أزمة استخدامها هي أنها تُفضي إلى عدد لا نهائي من الحلول وليس إلى حل محدد، هنا جاء دور العالِم الألماني، مارتين كوتا، لوضع نظريته المتفردة التي تُستخدم لحساب قوة الدوامة على جناح ذي طرف خلفي مُدبب وترصد قيمةً واحدةً لدوامة الهواء عند تلك النقطة.
هنا كانت البداية الحقيقية لعصر الطيران، كما يقول -في تصريحات خاصة لـ”للعلم”- هيثم عزت طه، أستاذ هندسة الطيران بجامعة كاليفورنيا-آريفين، والذي تمكن مؤخرًا من صياغة نظرية جديدة قادرة على حساب قيم دوامة الهواء عند أي شكل لأجنحة الطائرات، وليس على الأجنحة ذات الأطراف المدببة فحسب.
Credit: Haithem E. Taha
تصميم جناح الطائرة
لحسن الحظ، يتبع شكل جناح الطائرة تصميمًا يجعله -وفق التعبير الشائع- مسحوب الشكل، لينتهي بنقطة خلفية حادة، تقول معادلة أويلر إنه عند وجود نقطة حادة كهذه، فإن سرعة الهواء الناتجة عند هذه النقطة تكون لانهائية، الأمر الذي لا يحدث في الحقيقة بطبيعة الحال.
وبتطبيق معادلات كوتا، يُمكن حساب قيمة واحدة للدوامة التي تعطي سرعة محددة عند النقطة الحادة، وبالتالي يُمكن اختيار قوة الدوامة الصحيحة عن طريق تلك المعادلة، وعليه يُمكن تصميم الجناح الصحيح لحجم الطائرة.
لكن هناك شرطًا رئيسيًّا لتصميم الجناح، هو أن يكون ذلك الجناح مُدببًا عند طرفه، وذلك لتوليد قوة رفع كافية لحمل وزن الطائرة.
بالتالي أصبحت نظرية الطيران مُحددةً ومحدودةً للغاية، وتعتمد اعتمادًا كاملًا على نظرية كوتا، يقول محمد زكريا، الحاصل على درجة الدكتوراة في علوم الطيران من جامعة “فرجينيا تك” الأمريكية، ولم يُشارك في الدراسة: إن تلك النظرية وضعت قيودًا شديدةً على عملية تصميم الأجنحة؛ “فالجناح يجب أن يكون مصقولًا ومدببًا، وإلا فلن يمكن حساب قيمة الدوامة بأي شكل من الأشكال، وبالتالي لن تستطيع استنتاج قوة الرفع التي تُعد أساسيةً في عملية الطيران”.
وهنا تأتي الحاجة إلى نظرية جديدة، “الأمر الذي تمكن الباحث المصري هيثم طه زكي من فعله”، وفق تصريحات “زكريا” لـ”للعلم”.
فوفق ما نُشر في دورية “ميكانيكا الموائع”، تمكَّن الباحث المصري -بمعاونة باحث آخر يعمل في الجامعة ذاتها- من استخدام صيغة رياضية ثورية يُمكنها حساب قوة الرفع على أيّ شكل من أشكال الأجنحة، “هذا يعني إمكانية استخدام المعادلة لحساب قوى الرفع على جناح مربع، أو مثلث، أو دائري أو بأيّ شكل كان ليس بالضرورة مُدبب النهاية، وهو أمر ثوري ويضيف الكثير إلى نظرية الطيران”، كما يقول “زكريا”.
لكن لماذا نحتاج في الأساس إلى نظرية جديدة؟ ما أهميتها؟ وكيف يُمكن أن تسهم في الارتقاء بصناعة الطائرات؟
يقول “طه” في تصريحاته لـ”للعلم”: إن النظرية الكلاسيكية للرفع المبنية على معادلة كوتا محدودةٌ للغاية؛ “فلا يمكن تطبيق النظرية على الأشكال الانسيابية المصقولة التي لا تحتوي على نقطة حادة؛ إذ تنهار نظرية الطيران التقليدية، ونحن في عام 2022 ما من نموذج رياضي يستطيع حساب الرفع على شكل كهذا لا يحتوي على نقطة حادة”.
ليس هذا هو الأمر فحسب، فماذا لو احتوى شكلٌ ما على أكثر من نقطة حادة؟
في تلك الحالة لا توجد دوامة واحدة تؤدي إلى سرعة محدودة عند كل النقاط الحادة، وبالتالي تُصبح نظرية كوتا غير مفيدة، “ماذا أيضًا عن شكلٍ فيه نقطة حادة واحدة، ولكنه يطير بشكل يجعلها في المقدمة كما يحدث في الجزء الداخلي من ريش الهليكوبتر في أثناء الطيران الأمامي”، يقول “طه”، الذي يُشير إلى أن هذا السيناريو لا يمكن تطبيق معادلة كوتا خلاله.
كما أن “كوتا” وضع شرطًا أساسيًّا لتطبيق نظريته، أن يكون الطيران مستقرًّا، “لكن، وإذا ما تكلمنا عن تغيرات سريعة كما يحدث في المناورات أو في طيران الطيور والحشرات من رفرفة للجناح فإن معادلة كوتا غير صحيحة من الأساس”، يقول “طه”.
صياغة نظرية جديدة
استمرت تلك المعضلة -المتمثلة في عدم قدرة العلماء على حساب قوة الدوامة المولدة لقوة الرفع عند الأشكال التي تتمتع بنهايات غير حادة- لمدة 112 عامًا تحديدًا (وضع كوتا نظريته في عام 1910)، وطيلة الأعوام الماضية، حاول “طه” حل تلك المعضلة.
وباستخدام علوم الميكانيكا النظرية والتحليلية، تمكَّن “طه” من صياغة نظريته الجديدة.
اقترح “طه” تطبيق مبدأ فيزيائي يُعرف بـ”الجهد الأقل”، يفترض ذلك المبدأ وجود متغير معين تعمل الطبيعة على توفيره دائمًا، يقول “طه”: إنه إذا ما سلمنا بوجود ذلك المبدأ فيمكن النظر في معادلات نيوتن أن “كل مسارات الحركة الممكنة لهذا الجسم مع حساب الثمن المدفوع لكل مسار، وببساطة أنتقي المسار ذا الثمن الأقل؛ فهذا هو المسار الصحيح الذي تختاره الطبيعة”، يقول هذا المبدأ أيضًا إن مجموع الطاقة الحركية مطروحًا منها طاقة الوضع في أثناء الحركة هو “الثمن” الذي تعمل الطبيعة على توفيره دائمًا.
حين نعود إلى نظرية الطيران؛ لتطبيق هذا المبدأ، فإن حل المعضلة يبدو بسيطًا للغاية، “أويلر يعطينا عددًا لانهائي من الحلول لا ندري أيها تختار الطبيعة، ببساطة تختار الطبيعة الحل ذا الثمن الأقل”، يقول “طه” إن هذه كانت فكرته ست سنوات كاملة، “أعمل عليها ليل نهار”.
حين اختبر “طه” ذلك المبدأ وجد أن قوة الرفع الناتجة هي صفر، “وكان هذا شيئًا صادمًا يدعو إلى التعجب، إذ يبدو أن الطبيعة لا يهمها توفير طاقة الحركة عند سريان الهواء حول الجناح”، فيا ترى ما هو المتغير الذي تحاول الطبيعة توفيره في كل سريان للهواء حول أي جناح؟
أصر “طه” على استكمال عمليات بحثه، مستعينًا بمبدأ آخر، كان شبه مجهول، يُسمى “الانحناء الأقل” للعالم هيرتز، يقول “طه”: إن المبدأ بسيط وعميق للغاية، “كلنا نعلم أنه إذا كان الجسم حرًّا لا يتعرض لأي قوة خارجية، فإنه يتحرك في خط مستقيم وفق قانون نيوتن الأول، والآن، إذا كان هذا الجسم مقيدًا، أي أنه لا بد أن يتبع حركةً معينة (كالحركة على سطح معين مثلًا) فإن حركته ستحيد عن الخط المستقيم بسبب هذا القيد”، ينص مبدأ هيرتز على أن هذا الجسم المقيد سيحيد عن طبيعته (الحركة على خط مستقيم) فقط بالقدر الذي يوافق القيد، أيْ أن الحيدة عن الخط المستقيم ستكون أقل مما هي عليه شريطة أن تكون الحركة متوافقةً مع القيد.
لكن كيف يُمكن أن تُطبَّق تلك المبادئ على نظرية الطيران؟
لأن كل حل من حلول “أويلر” اللانهائية يناظر قيمةً معينةً لقوة الدوامة وقوة الرفع، فيمكن الآن حساب الانحناء عند كل نقطة في السريان وتجميع كل هذه الانحناءات لنحصل على رقم وحيد ممثل للانحناء الكلي لكل حل، “الآن نستطيع رسم الانحناء الكلي على المحور الرأسي وقوة الدوامة على المحور الأفقي”، وبالتالي هناك قيمة وحيدة للدوامة تعطي انحناءً أقل من باقي القيم جميعًا، “ويبدو أن هذه هي قوة الدوامة التي تفرضها الطبيعة وفقًا لمبدأ هرتز”.
للتوضيح، دعنا نأخذ جناحًا عاديًّا ذا نقطة حادة، ما هي قوة الدوامة أو قوة الرفع المتولدة؟ إنها القوة نفسها التى تعطيها معادلة كوتا، وإذا أخذنا أي شكل آخر مهما كان واتبعنا النظرية ذاتها، فسنحصل على قوة الدوامة وقوة الرفع دون أي عناء بفضل الدمج بين معادلات أويلر ومبدأ عدم الانحناء الأقل للعالم هيرتز.
تأتي قوة تلك النظرية من كونها مبنيةً على أساسيات علم الميكانيكا، وليست كمعادلة كوتا التي تضعنا تحت شروط مُحددة، كما يمكن تطبيقها على أي شكل مهما كان، سواءٌ في طيران ثابت أو متغير، أمامي أو عكسي، وفق “زكريا”.
هناك إنجاز خاص يتعلق بالنظرية الجديدة.
لكن ما أهمية ذلك العمل بشكل خاص لعملية تصنيع الأجنحة؟ وهل يُمكن أن نشهد طائرةً لها جناح مُربع أو دائري أو دون نقطة حادة في نهاية الجناح؟
يقول “طه”: إن التصميم الأمثل للأجنحة في الوقت الحالي هو التصميم ذو النهاية الحادة، إلا أن كل الأمور متوقعة، يتحدث “طه” عن مبدأ “التعميم”، الذي هو جوهر العلم؛ فالنظريات -في الأغلب- لا يُناقض بعضها بعضًا، بل يُكمل بعضها بعضًا وتبني جدار المعرفة، “في هذا العمل لم أكن والعالِم الكبير “كوتا”على طرفي نقيض، لكن ببساطة كانت نظريته مشروطةً أما نظريتي فقد أصبحت أكثر تعميمًا؛ إذ تضع نظرية كوتا قيودًا على الإبداع في التصميم، في حين تفتح نظريتي الجديدة الباب على مصراعيه أمام التفكير والابتكار”.
المصدر: للعِلم