أمضى محمد مطاوع سنة وهو حبيس المطار في إندونيسيا، حيث كان يمضي الساعات الطوال وهو يصرخ مطالباً بالطعام، إذ خسر 30 كيلوغراماً من وزنه خلال مرحلة الانتظار قبل حصوله على اللجوء.
فقد مكث هذا السوري وهو أب لطفلين في مطار سوكارنو-هاتا بجاكرتا من كانون الأول 2019 وحتى كانون الأول من عام 2020، بعدما تمت مصادرة جواز سفره ولم يعد بوسعه الوصول إلى بر الأمان في أي دولة بسبب تفشي مرض كوفيد-19، وبقي على حاله إلى أن تدخلت نيوزيلاندا.
وهناك في الشقة المؤلفة من غرفة نوم واحدة بمدينة كرايست تشيرش التي استقر فيها منذ شهر، قرر مطاوع أن يحكي لنا قصته للمرة الأولى.
كان مطاوع يتخيل نفسه وهو يسير في الشارع الذي يراه من النافذة، ليتمشى تحت المطر الذي يعشقه، أو ليستمتع بنور الشمس وهو يداعب وجنتيه.
إلا أن موظفي المطار نسوا أمره بعدما بات لزاماً عليهم أن يعملوا في ظل تفشي فيروس كورونا.
كانت أطول فترة أمضاها هذا الرجل البالغ من العمر 41 عاماً بلا طعام امتدت لأكثر من 35 ساعة، ولهذا كان يصرخ ويستغيث منادياً: (ماكانان) أي طعام باللغة المالاوية، وذلك قبل أن يعطف عليه أحدهم ويقدم له نصف كوز ذرة.
وفي كثير من الأحيان كان يشترك بالغرفة مع 30 مسافرا آخر، ولهذا يعتقد أنه أصيب بكوفيد-19 خلال مدة إقامته في ذلك المطار.
خرج من السعودية
يذكر أن مطاوع غادر سوريا في عام 2009 ليجد عملاً في السعودية، لكنه عاد في عام 2011 حتى يتزوج، ثم لحقت به زوجته إلى بلده الجديد في عام 2013.
وبعد مرور عشر سنوات من العمل كعامل مهاجر في تلك البلاد، تغيرت القوانين ما تسبب بخسارته لوظيفته ولسمة الدخول الخاصة به، ولهذا أرسل زوجته وطفليه إلى الأهل في سوريا.
شعر مطاوع بأنه ليس من الحكمة أن يعود إلى بلده التي مزقتها الحرب، بل إن عودته لن تكون آمنة بما أنه سيساق للتجنيد الإجباري. وفي أثناء سفره بين إندونيسيا وماليزيا، تم ترحيله وإعادته إلى جاكرتا، كما احتجز طاقم الطائرة جواز سفره، وسلموه للعاملين في إدارة الهجرة بإندونيسيا عند وصوله إلى هناك، وبذلك حرم من جوازه لمدة سنة.
حاول هؤلاء إعادته إلى سوريا، إلا أن الرحلات توقفت لحسن حظه بسبب تفشي الجائحة والحرب حسبما ذكر لنا.
وهكذا حبسه الحرس في غرفة مغلقة لها باب مزود بقضبان حديدية، داخلها سريران من الحديد، ومرحاض وحمام، وفسحة مساحتها متران ليتجول فيها، وكانت تلك الغرفة ضمن المحطة الثانية للمطار، فمكث في تلك الغرفة لمدة خمسة أشهر.
وعندما تم إغلاق تلك المحطة المحلية بسبب تفشي الفيروس، تم نقله إلى المحطة الدولية رقم 3، فعاش في غرفة بلا مرحاض لمدة سبعة أشهر.
وفي نهاية المطاف تعب الحرس من تقديم المساعدة له فتركوا له الباب مفتوحاً حتى يتسنى له الذهاب إلى المرحاض، والاغتسال في دلو.
ثم انضم إليه مسافرون آخرون، قدموا له رصيداً من الإنترنت وملابس ارتداها بدل ملابسه التي تمزقت بسبب الشقوق الموجودة في أريكة جلدية صفراء اتخذ منها سريراً له.
بيد أن بعض المسافرين لم يمكثوا هناك سوى بضعة أيام، وذلك لأن بلادهم تدخلت لمساعدتهم.
أخذ صوت هذا الرجل المبتسم والمتفائل على الدوام يرتعش وهو يحني رأسه عندما بدأ يصف لنا ما تعرض له خلال محنته، وذلك عندما قال: “إن لم يكن لديك بلد، فلن يكون لديك وطن”.
أخذ يعد الأيام على الجدار طيلة ثلاثة أشهر، ثم توقف عن العد بعدما أصبحت الأيام تشبه بعضها.
روني الكندي
غير أنه أحس بالارتياح عندما سمع أحدهم يقول بكل مودة: “اسمي روني” وهو معلم لغة إنكليزية من كندا أخذ يتابعه كل يوم عبر يوتيوب.
كان هذا الرجل قد حصل على 92% بمادة اللغة الإنكليزية عندما درس لنيل شهادة في الكيمياء بسوريا قبل عشر سنوات، بيد أنه صار يتحدث الإنكليزية بطلاقة خلال فترة سجنه بعدما لم يكن يكلم أحداً بهذه اللغة.
أخذ يمزح ويقول لنا بأن وضع ميرهان نصيري الذي تحولت قصته إلى فيلم The Terminal من بطولة طوم هانكس كان أفضل من وضعه، لأنه كان يتمتع بحرية مطلقة في مطار شارل ديغول خلال فترة مكوثه هناك التي امتدت لثماني عشرة سنة.
وأخيراً، تدخلت الأمم المتحدة لمساعدة مطاوع، فقبلته إدارة الهجرة في نيوزيلاندا بعدما أجرت مقابلات معه، إلى جانب الفحوصات الطبية وفحوصات الشرطة.
كان كل ما يعرفه عن تلك البلاد هو من خلال الإعلانات التجارية التي تبث عبر التلفاز حول أفضل سمنة وزبدة في سوريا.
استرجع جواز سفره قبل نصف ساعة من ركوبه الطائرة، ثم وصل إلى أوكلاند في 29 كانون الأول، وبعد تجاوزه لمسألة العزل لمدة 20 يوماً في مركز إعادة التوطين في مانجر، انتقل إلى كرايست تشيرش.
وصار اليوم يتعلم الإنكليزية حتى يصبح سباكاً مرخصاً، كما أصبح يحتسي الشاي برفقة جاره العجوز، ويعشق ابتسامة طيور الكيوي ويسلم عليها عندما تمر في الشارع.
وبحسب ما أوردته إدارة الهجرة في نيوزيلاندا، فإن اللاجئين الذين يتم اختيارهم بموجب النسبة المحددة لنيوزيلاندا يخضعون لفحص صارم، بيد أنها قبلت نحو 51 شخصاً منذ شهر تشرين الأول للضرورة الطارئة بسبب الوضع الذي هدد حياتهم، وبسبب الترحيل أو الاعتقال أو الحبس.
لم ير مطاوع ولديه الذي يبلغ أحدهما السادسة والثاني الثالثة منذ سنتين، ولهذا فهو قلق على أسرته التي تعيش في قرية صغيرة بسوريا، ويأمل أن يلتحقوا به قريباً.
إلا أنه أخبرنا بأن زوجته صرخت وأخذت تقفز فرحاً عندما أخبرها بوصوله إلى وطنه الجديد، ثم قالت له: “عندما أصل إليك سنذهب سوية إلى الغابات أو إلى الجبال لنصرخ هناك معاً”.
المصدر: ستاف – ترجمة تلفزيون سوريا