حينما يتحدث العلم عن النجوم، فعادةً ما نهتم بالطبيعة الفيزيائية لها، أو بمواضعها في السماء وإحداثياتها الفلكية التي تنتج من معادلات رياضية محددة ودقيقة، لكن علاقة البشر بالنجوم أقدم من العلم نفسه، فهي قديمة قِدَم البشرية ذاتها.
مَن منَّا لم يتطلع يومًا إلى السماء، ينظر إلى النجوم وهي تتلألأ، يحلم بأن يرتقي إليها من فرط إعجابه بجمالها الباهر، وأن يمسك بيديه عناقيدها الساطعة، فعلاقة البشر بالسماء علاقة وثيقة، شديدة القدم، ولكنها كانت دومًا تتَّسم بالغموض الذي انعكس على أسماء النجوم والكواكب من معتقداتنا وثقافتنا، وربما طرق تفكيرنا تجاه الحياة ومكوناتها في الماضي البعيد، الأمر الذي تعلق عليه زينب محمد عوض -أستاذ الفيزياء الفلكية المساعد بكلية العلوم بجامعة القاهرة- بقولها: “بالنسبة للقدماء، فقد ربطوا النجوم ببيئاتهم وحكاياتهم الشعبية الدارجة، لذلك تُعد النجوم حافظةً لتاريخنا الثقافي كذلك”.
الجبار والجوزاء
لتسهيل دراستها، يقسم الفلكيون نجوم السماء إلى مجموعات، يحوي كلٌّ منها عددًا من النجوم، تسمى الكوكبات Constellation، هل ربطت من قبل بين مجموعة من النجوم في السماء لتصنع شكل سيارة، أو مظلة، أو حتى أول حرف من اسمك، أو اسم أي شخص تحبه؟ قديمًا فعل الناس هذا الأمر، ربط اليونانيون مثلًا بين مجموعة من النجوم تتخذ شكل صيّاد مقاتل في أساطيرهم (سُمِّي Orion أو الجبّار)، ومن هنا جاء اسم “كوكبة الجبّار”.
“كان القدماء يطلقون أسماءً متعلقة بتلك الأسطورة أو الحكاية على نجوم الكوكبة، واحتفظنا ببعض تلك الأسماء إلى اليوم”، كما تقول “عوض” في تصريح لـ”للعلم” عبر الهاتف، أحد أشهر الأمثلة على ذلك كوكبة “التوأمان”، فنجد أن أكثر نجومها لمعانًا هما “كاستور” Castor وبولكس “Pullox”، وهما اسما التوأمان في الأسطورة اليونانية القديمة، التي تصوّرت أنهما كانا أخوَين سافرا معًا، لكن أحدهما قُتل في احدى المعارك، فطالب الآخر أن ينضم إلى أخيه، فرفعهما زيوس معًا إلى السماء كنجمين، كما تحكي الأسطورة.
توضح “عوض” أن تلك ليست هي الحال في كل الكوكبات، مثلًا في كوكبة الجبار تجد نجمًا يسمى “Betelgeuse”، والاسم مأخوذ بالأصل من كلمة “بيت الجوزاء” أو “منكب الجوزاء”، وهنا تتعلق بأسطورة أخرى لكنها ليست يونانية بل عربية، إذ تصوّرت العرب قديمًا أن تلك المنطقة من السماء ليست صيادًا مقاتلًا، بل فتاة تمسك بقوس وسهم توجهه ناحية الأسد، سمِّيت الفتاة الجوزاء، وكان لها زوج يدعى “سهيل”، وفي خلافٍ بينهما كسر ظهرها وهرب إلى جنوبي السماء كي لا يراه أحد.
الجبار هي واحدة من أشهر كوكبات السماء، ومنكب الجوزاء أو يد الجوزاء من ألمع نجومها، يمكن لعينيك في ليالي الشتاء وأوائل ليالي الربيع أن تلتقط لونه الأحمر اللامع بسهولة، وهو عملاق فائق أحمر قارب عمره على الانتهاء، ربما ينفجر خلال عدة آلاف من السنوات، تلك الفئة من النجوم هي الأضخم في الكون كله، قُطر منكب الجوزاء يساوي حوالي 750 مرة قطر الشمس!
سبع بنات يحملن نعش أبيهن
في سماء الليل، تتداخل الأساطير العربية مع اليونانية بشكل بديع، فتجد أن كوكبة “الدب الأكبر” تتخذ الإسم اليوناني القديم Ursa Major، وتقول الحكاية إن حوريةً تُدعى “كاليستو” قد نالت إعجاب “زيوس” ملك الآلهة وفق الأسطورة اليونانية القديمة، وكان ينزل إليها من جبال الأوليمب ليتمشّى معها، لكن زوجته “هيرا” جاءت ذات مرة فجأةً لتبحث عنه، فاضطر إلى إلقاء بعض السحر على كاليستو، فتحوّلت إلى دب، وبعد أن ذهب زيوس مع هيرا كان ابن كاليستو -وهو صيّاد ماهر- يبحث عن فريسة، فإذا به يرى الدب ويضربه بالسهم، قبل أن يعرف في النهاية أنه ليس دبًّا بل هي أمه، وكنوع من الترضية لهما يرفعهما زيوس كمجموعتين من النجوم في السماء، كوكبة الدب الأكبر (كاليستو)، وكوكبة الدب الأصغر (ابنها).
على الجانب الآخر فإن أحد نجوم الكوكبة هو “القائد” Alkaid، والتسمية عربية كما تلاحظ، وهي ذات علاقة بالأسطورة العربية، التي تختلف تمامًا عن نظيرتها اليونانية، فتلك المجموعة من النجوم تمثّل سبع بنات يحملن نعش أبيهن، وكان سهيلٌ (نجم سهيل الذي يظهر في الجنوب) قد قتل هذا الرجل، لكن بناته قررن أن يأخذن بالثأر، فحملن النعش ودرن به في السماء بحثًا عن سهيل، وحينما علم الأخير بذلك هرب إلى جنوبي السماء ليتخفّى منهن، كي يضلِّلهن، فظنوا أن نجمًا آخر -ويسمى “الجُدَي”- هو مَن قتل أباهم.
ولأن هذه المنطقة من السماء توجد دائمًا في الشمال، وطالما كانت دليل المسافرين على الأرض أو في البحر، فقد كانت أساطيرها كثيرةً ومتنوعة بتنوع الثقافات، قدماء المصريين –مثلًا- تصوروا مجموعة نجوم الدب الأكبر وكأنها ثور يحرث الأرض، أما الصينيون فقد تخيلوها على شكل عربة صغيرة يجري خلفها شخصان.
الآن نعرف أن هذه المجموعة من النجوم ليست إلا قافلة سابحة في السماء، إذ تتحرك كلها -باستثناء نجمي القائد (Alkaid) والدبة (Dubhe)- بالسرعة نفسها وفي الاتجاه نفسه، ناحية كوكبة القوس، وكذلك فإن لها جميعًا تركيبًا كيميائيًّا متشابهًا، ولها تقريبًا العمر نفسه، لهذا السبب سُميت بمجموعة الدب الأكبر المتحركة (Ursa Major Moving Group)، يعتقد العلماء أن تلك المجموعة من النجوم كانت قبل حوالي 500 مليون سنة جزءًا من سحابة نجمية واحدة ثم انفصل بعضها عن بعض.
حدائق وأغنام عربية
الفارق بين التراث الثقافي العربي واليوناني يتبدى بشكل أوضح في مجموعات النجوم الصيفية، ومنها مثلًا كوكبة “الجاثي” أو “هرقل”، وقد تخيلها اليونان في صورة رجل يمثل هرقل، بطل الأساطير الذي قتل زوجته وأطفاله بسبب حالة من الهيستريا أصيب بها بعد أن سحرته زوجة أبيه، وليكفر عن ذنبه طُلب إليه أن ينفذ 12 مهمة، منها مثلًا أن ينقذ سكان إحدى القرى من أسد قاتل، ومنها أن يقتل أفعى لها تسعة رؤوس، إذا قطعت رأسًا واحدًا منها خرج اثنان مكانه.
بالنسبة لعرب البادية قديمًا، فإن هذه المنطقة من السماء لم تمثل أي شخص، بل كانت جزءًا مما يسمى النسقين، النسق الشامي والنسق اليماني، وكلا النسقين مثَّلته مجموعة من النجوم في خط طويل، تخيلتها العرب القدماء وكأنها جدار من الأشجار يحيط حديقةً أو روضةً ترعى بها الأغنام وفيها راع وكلبه، الحكاية إذًا مأخوذة عن حياتهم في الصحراء والبادية قديمًا.
للوصول إلى كلا النسقين، فقط ابحث عن حزام المجرة في مكانٍ ناءٍ، حيث الإضاءة خافتة، وهو تلك السحابة الدخانية الخافتة التي يمكن أن تراها في سماء الليل صيفًا، ينطلق النسق الشامي من جوار نجم “النسر الواقع” Vega، وهو من كوكبة “القيثارة” Lyra، أما اليماني فيتجه من ناحية النجم العملاق “قلب العقرب” Antares من كوكبة العقرب Scorpius، فكأن النسقين يصنعان ضلعا مثلث، والضلع الثالث لهذا المثلث هو حزام المجرة.
إلى جانب النسقين، توجد مجموعة من النجوم تابعة لكوكبة القوس، تصوّرت العرب قديمًا أنها فريقان من النعام، النعام الصادر عن النهر بعد أن شرب منه، والنعام الوارد إلى النهر كي يشرب منه، إذ تخيلت العرب قديمًا أن حزام المجرة -الذي كان يظهر واضحًا في سمائهم المظلمة- نهرٌ جارٍ، على ضفافه تعيش صنوف الكائنات الحية التي عاشت في الصحراء قديمًا.
نعرف الآن أن تلك المنطقة التي اهتمت العرب بها قديمًا ليست إلا مركز مجرتنا درب التبانة، وهي مجرة حلزونية تتكون من مركز على شكل قضيبي منتفخ وأذرع حلزونية تدور حوله، سُمك هذا المركز يساوي حوالي 4 آلاف سنة ضوئية، ويحتوي بداخله على ثقب أسود عملاق يسمى الرامي أ* (Sagittarius A*) بكتلة حوالي 4.1 ملايين شمس.
الدبران العاشق
يبرز الفارق بين السماء العربية واليونانية كذلك في كوكبة الثور؛ إذ تقول الأسطورة اليونانية إن “أوروبا” كانت فتاةً غاية في الجمال تخرج كل يوم مع رفيقاتها لجمع الزهور من حديقة بجانب البحر، من بعيد جدًّا، راقبها “جوبيتر” ووقع في حبها، ثم تنكر جوبيتر في صورة ثور أبيض جميل ذي رائحة عطرة، تمشَّى مع قطيع أغنام بجانب الفتيات اللاتي يقطفن الزهور، ركبت أوروبا على الثور وأمسكت قرنه بإحدى يديها، وفستانها باليد الأخرى، وبعد مرور البحر أظهر جوبيتر نفسه للفتاة، وأعلن حبه لها وتزوجا.
أشهر نجوم هذه الكوكبة وألمعها يسمى “الدبران” Aldebaran، وكما تلاحظ فإن اسم النجم عربي الأصل، وله علاقة بالأسطورة العربية التي تقدم حكاية الدبران والثريا، كلمة الثريا في اللغة العربية هي تصغير “ثروى” أي “متمولة” أو “ذات ثروة”، وكلمة الدبران من الأصل “أدبر”، والقصة أن الدبران وقع في حب الثريا وخطب ودها عبر إرسال الرسائل مع القمر، لكن حينما قال القمر للثريا إن الدبران يحبها رفضت حبه؛ لأنه فقير، وكانت تود لو تتزوج رجلًا غنيًّا، يرجع القمر إلى الدبران ويخبره بما حدث، فيقرر الدبران أن يعطيها ما يملك من الغنم والجمال، لكنها تستمر في الرفض، فيظل يدبرها أي يتعقُّبها بلا توقف، فلذلك سُمي “الدبران”.
أين العرب في السماء؟
بعد أن تتأمل السماء العربية والسماء اليونانية في النجوم، ستجد أوجه تشابه واختلاف واضحة، كلتاهما بطبيعة الحال أخذت جزءًا رئيسيًّا من بيئتها وثقافتها ووضعته في نجوم السماء، إلا أن العرب اختلفت عن اليونان والرومان في عدة أوجه، منها مثلًا أنها أفردت للوصف التشريحي للبيئة قدرًا أكبر في السماء، فتجد الكثير من النعام والظباء والجمال والأغنام والصقور والنسور والذئاب وكل مكونات الصحراء والبادية القديمة، وصولًا إلى الآبار ومواسم الزراعة وغيرها، أما النجوم اليونانية فقد كانت متعلقةً بالحكايات الأسطورية فقط.
كذلك بدا واضحًا أن العرب اهتمت بشكل أساسي بالنجوم ومواقعها، لأن سماء الليل كانت تهدف إلى التوجيه الجغرافي، عاش العرب قديمًا في الصحراء، وكان تنقُّلهم فيها ليلًا أفضل من النهار وشمسه الساخنة، لذلك كانت معرفتهم بالنجوم هي ببساطة معرفة بالطرقات على الأرض، والاهتداء بالنجوم كان أساسيًّا.
تقول زينب عوض لـ”للعلم”: “نستخدم الآن عدة طرق لتسمية النجوم، أشهرها هو ترتيب نجوم الكوكبة من حيث اللمعان (الأكثر لمعانًا فالأقل)، ثم إعطاؤها حروفًا لاتينيةً بهذا الترتيب، فيكون (ألفا) هو أكثر نجوم الكوكبة لمعانًا و(بيتا) هو ثاني نجوم الكوكبة في اللمعان، وهكذا”، ثم تضيف: “لكن بعض النجوم لا تزال تمتلك إلى جانب التسمية الحديثة تسميةً أخرى قديمة تتعلق بالثقافة، ومن هنا فإن التراث العربي القديم يتصدر قوائم أسماء النجوم، بأكثر من 250 نجمًا”.
الغريب في الأمر أن الكوكبات السماوية الآن تتخذ اسمًا له علاقة بالأسطورة اليونانية، بينما تتخذ بعض نجومها أسماء ذات أصول عربية، في كتابه “العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية” يوضح جورج صليبا -وهو باحث لبناني الأصل يعمل أستاذًا للعلوم العربية والإسلامية في جامعة كولومبيا- أن العرب تفاعلوا مع علوم الفلك في عصور النهضة العباسية، وأضافو إليها من أرصادهم وأبحاثهم الخاصة.
هذه الإضافات جعلت من الكتب والأطالس الفلكية العربية هدفًا لحركات الترجمة التي بدأت قبل حوالي خمسمئة سنة من الآن، من العربية إلى اللاتينية، فنقلت معها أسماء النجوم العربية إلى الفلكيين الأوروبيين، ثم بقيت إلى الآن في الأطالس الفلكية المعاصرة، لذلك لا تتعجب لو قرأت يومًا نجمًا باسم الفرد Alphard أو dubhe ونجم النطاق Alnitak (من نطاق المرأة وهو قطعة قماش تلتف حول الوسط)، ونجم الضفيرة Adhafera ونجم العين Ain ونجم الجنب Algenib؛ لأن مئات النجوم المعاصرة لها أصل عربي.
لكن تبقى المشكلة أنه لا أحد يسأل عن أصول تلك الأسماء، الأسطورة التي تشتهر في العالم -حينما يتحدث أحدهم عن السماء ليلًا- هي عادة يونانية أو رومانية، لا أحد يعرف حكاية الفتى العاشق الذي اتبع حبيبته للأبد، أو الفتيات اللائي طفن العالم بنعش أبيهن، أو تلك النعامات الأنيسة حول حزام المجرة.
في ختام حديثها تقول “عوض” لـ”للعلم”: “هذه حكايات تستحق أن تُحكى، في المحاضرات الأولى من مساق (برنامج دراسي) الفلك أو الفيزياء الفلكية في أي جامعة، يتعيّن علينا تعريف الطلاب بأسماء النجوم وجذورها، وصولًا إلى طرق التسمية الحديثة، تكون الفرصة مناسبةً لإطْلاع الطلاب على بعض من تلك القصص، فيتعلمون أن النجوم هي جزء رئيس من تراث البشرية الثقافي بشكل عام، والتراث العربي بشكل خاص”.
المصدر: للعِلم