إذا أردنا أن نضع قاعدة واحدة رئيسية لعالم ألعاب الفيديو فسوف تكون كالآتي: كلما وضعت الشركات المصممة للإلكترونيات قيودا على الألعاب، سيجد الأطفال والمراهقون طرقا للتغلب عليها.
لكن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة -ولغيرها من القواعد على ما يبدو- هي الصين، حيث يُطلب من اللاعبين القصر تسجيل الدخول باستخدام أسمائهم الحقيقية وأرقام هوياتهم بوصفها جزءا من اللوائح المعمول بها في جميع أنحاء البلاد والتي تهدف إلى الحد من وقت الشاشة والسيطرة على إدمان الإنترنت.
وقبل ذلك، في عام 2019، فرضت الدولة حظرا إلكترونيا يمنع أولئك الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما من ممارسة الألعاب بين الساعة العاشرة مساء والثامنة صباحا.
لكن ذلك لا يعني أن المراهقين الماكرين رفعوا راية الاستسلام، وكانت أبرز حيلهم هي استخدام أجهزة آبائهم أو هوياتهم للتحايل على القيود. وإدراكا منها لتلك الحيلة، قالت شركة الإنترنت الصينية العملاقة “تنسنت (Tencent)” هذا الأسبوع إنها ستغلق هذه الثغرة من خلال نشر تقنية التعرف على الوجه في ألعاب الفيديو الخاصة بها.
في المشهد الأوسع، يبدو الأمر أكبر من مجرد مباراة للحيلة بين السلطات والشركات وبين المراهقين.
وفي النهاية، قسمت هذه الإجراءات الجمهور إلى فريقين، فريق يدافع عن الإجراءات ويناصرها بدعوى أنها ستساعد على مكافحة إدمان المراهقين على الإنترنت في دولة تصنف الألعاب على أنها “أفيون روحي”، في المقابل كان المعارضون متشككين حول كيفية مراقبة السلطات وتوظيفها البيانات التي تجمعها، متهمين “تنسنت” بممارسة دور أبوي مفرط.
بالطبع يعد استخدام الدولة -أي دولة- البيانات لمراقبة سكانها تصرفا عدوانيا، وهو يقوض خصوصية المستخدمين دون السن القانونية، لكن تنسنت ليست شركة ألعاب الفيديو الوحيدة التي تتعقب لاعبيها، كما أن هذه الظاهرة بالكلية ليست جديدة تماما، ففي جميع أنحاء العالم تقوم ألعاب الفيديو، وهي واحدة من أكثر أشكال الوسائط الرقمية التي يتم تبنيها على نطاق واسع، بتثبيت شبكات للمراقبة والتحكم في أجهزة المستخدمين.
جاسوس في بيتي
بادئ ذي بدء، دعونا نذكر بالفكرة الرئيسية التي تقوم عليها كل ألعاب الفيديو.
يمكننا ببساطة تعريف هذه الألعاب بوصفها أنظمة تترجم المدخلات -مثل حركة اليد أو الإيماءات- إلى مخرجات كهربائية أو إلكترونية مختلفة يمكن قراءتها بواسطة الآلة.
يتم تحليل سلوكيات المستخدمين، من خلال التصرف بطرق تتوافق مع قواعد اللعبة ومواصفات الأجهزة، وتحويلها إلى بيانات بواسطة خوارزميات اللعبة.
يجادل عالِمَا الاجتماع “جينيفر ويتسون” و”بارت سيمون” أن الألعاب في حقيقتها أنظمة تسمح بسهولة باختزال العمل البشري في أشكال يمكن معرفتها ويمكن التنبؤ بها.
طبقا لهذا التعريف تكون ألعاب الفيديو وسيلة طبيعية للتتبع، وقد جادل الباحثون منذ فترة طويلة بأن مجموعات البيانات الكبيرة حول أنشطة اللاعبين داخل اللعبة هي مصدر غني لفهم نفسيات اللاعبين وطرق إدراكهم.
في إحدى الدراسات التي تتبعت الأمر، قام الباحثون بتحليل بيانات نشاط اللاعبين المسجلة على موقع “World of Warcraft Armory”، وهو قاعدة بيانات تسجل كل التصرفات والحركات التي قام بها اللاعب أثناء ممارسة اللعبة (كم عدد الوحوش التي قتلها، وكم مرة مات اللاعب أثناء اللعب، وكم عدد الأسماك التي اصطادها أو الأهداف التي أحرزها، وغير ذلك).
واستخدم الباحثون هذه البيانات لاستنتاج خصائص شخصيات اللاعبين، ليخلصوا إلى أن هناك علاقة بين اللاعبين المصنفين على أنهم أكثر وعيا في أسلوب لعبهم، والميل إلى قضاء المزيد من الوقت في القيام بمهام متكررة ومملة داخل اللعبة مثل صيد الأسماك.
على العكس من ذلك، فإن أولئك الذين سقطوا في مراحل مبكرة كانوا أقل مثابرة وأكثر عجلة.
من المؤكد أن العلاقة بين الشخصية والهوية ونشاط ألعاب الفيديو معقدة جدا، ولا يمكن صياغتها بطريقة قاطعة أو مباشرة، ولكن -على الرغم من ذلك- تدرك شركات الألعاب بشكل متزايد قيمة مجموعات البيانات الضخمة في دراسة ميول اللاعبين وتفضيلاتهم، والأشياء التي يحتمل أن ينفقوا المال عليها، وتقوم بتهيئة المحتوى المناسب لكل لاعب بناء على هذه البيانات.
حتى اليوم لا يوجد إحصاء واضح للشركات التي تراقب لاعبيها، لكن مصادر حديثة تذكر أن كبار المطورين، مثل “Epic” و”EA” و”Activision”، يصرحون أنهم يجمعون البيانات في اتفاقيات الترخيص الخاصة بهم.
ومع توسع هذه الممارسة، نشأت صناعة جديدة قادتها الشركات التي تبيع أدوات “تحليلات البيانات” لمطوري الألعاب.
تَعِدُ أدوات تحليل البيانات هذه بجعل المستخدمين أكثر قابلية للاستمرار في الاستهلاك من خلال تقديم إفادات واضحة حول ميولاتهم.
مثل هذه التحليلات كانت متاحة في السابق فقط لأكبر إستوديوهات ألعاب الفيديو، والتي يمكن أن توظف علماء البيانات لالتقاط البيانات وتحليلها، ومهندسي البرمجيات لتطوير أدوات التحليلات الداخلية، لكنها أصبحت الآن شائعة في جميع أنحاء الصناعة من قبل شركات مثل “Unity” أو “GameAnalytics” أو “Amazon Web Services”.
قد يستخدم المطورون البيانات من شركات البرامج الوسيطة هذه لتحسين لعبتهم، لكن بياناتنا ليست فقط ذات قيمة في ضبط التصميم.
وعلى نحو متزايد، تستغل شركات الألعاب هذه البيانات لجذب انتباه المستخدم من خلال الإعلانات المستهدفة، تخدم هذه الإعلانات غايات عديدة، مثل تسهيل اكتساب المستخدمين، والترويج للعلامة التجارية، على غرار نهج عمالقة الإعلان الرقمي جوجل وميتا (الشركة الأم لفيسبوك)، حيث إن البيانات التي تم إنشاؤها بواسطة مستخدمي النظام عبر النقرات والإعجابات والاهتمامات من المفترض أن تسهل استهداف هؤلاء المستخدمين عبر الإعلانات المرغوبة.
بعبارة أخرى، تحاول شركات ألعاب الفيديو تسخير مليارات التفاعلات التي تحدث داخل ألعابهم لإنشاء تدفقات إيرادات جديدة. تبيع هذه الشركات انتباه مستخدميها للمعلنين، وتجمع البيانات لبناء مطابقة أفضل بين المستخدمين والمعلنين، بناء على مواصفات المعلن أو البرنامج الذي يعمل نيابة عن المعلن.
أسوأ من بلاك ميرور
لا تقف الأمور عند هذا الحد، حيث يبدو أن الألعاب وتقنياتها تغزو حياتنا بأشكال لم نكن نتوقعها.
لنضرب مثالا على ذلك من شركة أوبر التي عانت لسنوات طويلة من علاقتها المضطربة مع السائقين الذين اشتكوا طويلا من انخفاض الأجور والمعاملة التعسفية، ومن أجل التغلب على غضب السائقين الذين باتوا يعملون لساعات أقل، انخرطت الشركة في تجربة مثيرة للجدل.
وظَّفت أوبر تقنيات ألعاب الفيديو والرسومات والمكافآت غير النقدية لحث السائقين على العمل لفترة أطول، وأحيانا في ساعات ومواقع أقل ربحا بالنسبة إليهم. لإبقاء السائقين على الطريق، استغلت الشركة ميل بعض الأشخاص إلى تحديد أهداف للأرباح، لتنبيههم إلى أنهم قريبون جدا من تحقيق هدف ثمين عندما يحاولون تسجيل الخروج.
كما بدأت الشركة في إرسال تنبيهات الموافقة للرحلة التالية حتى قبل أن يُنهي السائق رحلته الحالية. تستخدم شركة أمازون تقنيات “تلعيب” مماثلة، حيث تمنح العاملين نقاطا مقابل أداء أعمال معينة، مع إمكانية استبدال النقاط بـ”Swag Bucks”، وهي عملة مملوكة لأمازون يمكن استخدامها لشراء ملصقات شعار أمازون أو ملابس أو سلع أخرى.
من خلال توظيف البيانات تحت ستار اللعب، يمكن للعمال أن يخضعوا لمزيد من الانضباط ويصبحوا أكثر قلقا حول إنتاجيتهم على حساب رفاهيتهم. لقد انتقل الأمر من مجرد التجسس على بياناتك إلى تحليل سلوكك وتوجيهك لأداء أفعال معينة، إنه أسوأ مما يُعرض في بلاك ميرور.
في ضوء ذلك، لم يعد من المستغرب أن تستثمر الشركات الكبرى مليارات الدولارات في عالم الألعاب، وتمتلك الشركات الصينية -تحديدا- الريادة في هذا المجال.
على مدار السنوات العشر الماضية، استثمرت شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة تنسنت أو استحوذت بشكل مباشر على العديد من أكبر شركات ألعاب الفيديو في العالم، بما في ذلك “أكتيفيجن بليزارد”، شركة “ريوت جيمز” المصنعة لـ”ليغ أوف ليجيندز”، و”إيبك جيمز” المصنعة للعبة “فورتنايت” ومنصة الاتصالات التي يتجمع عليها لاعبو ألعاب الفيديو”ديسكورد”.
يقضي الأميركيون وقتا أطول بكثير على ألعاب الفيديو المدعومة من الصين مقارنة بالتطبيقات الصينية الأخرى مثل تيك توك. وبينما ظلت الشركات الصينية راضية طويلا عن الاستثمار في إستوديوهات غربية راسخة، فإن المطورين الصينيين يصنعون الآن نجاحات هائلة.
هل تمثل ألعاب الفيديو الصينية تهديدا حقيقيا للأمن القومي للولايات المتحدة؟ بالنسبة إلى صناع القرار في واشنطن، الجواب هو قطعا: نعم. تستخدم الصين بالفعل الألعاب لنشر قوتها الناعمة وجمع البيانات عن مواطني الولايات المتحدة كما أوضحت الإدارة الحالية، والأكثر دهاءً أن وصول بكين إلى الملايين من أجهزة الكمبيوتر للاعبين يمنح جواسيسها فرصة لا مثيل لها لاستخدام الألعاب لإجراء عمليات استخباراتية.
يتمثل التهديد الأكثر مباشرة للأمن القومي في الوصول إلى البيانات التي اكتسبتها الصين من عمليات تثبيت الألعاب التي يقدّر عددها بالملايين.
يمكن استغلال البيانات التي تُجمَع من الألعاب بسهولة أكبر بكثير من بيانات تيك توك مثلا. في معظم الحالات، يجب على اللاعبين الذين يلعبون عبر الإنترنت -كما ذكرنا من قبل- تقديم أسمائهم الحقيقية ومعلومات الدفع وتواريخ الميلاد والمواقع، ويقومون بإنشاء عينات صوتية ثابتة باستخدام الدردشات داخل اللعبة. في أيدي شركة ألعاب صينية، من المعقول أن نفترض أنه يتم تخزين البيانات في الصين في إحدى الخدمات السحابية المملوكة لعلي بابا أو تنسنت.
السؤال التالي هو: ماذا يمكن أن تفعل وزارة أمن الدولة في بكين ببيانات ألعاب الفيديو؟ تأتي الألعاب الحديثة مع برامج مصاحبة يتم تشغيلها على جهاز الكمبيوتر الخاص بك بنفس امتيازات برنامج مكافحة الفيروسات، هذا يعني أنه يمكنه رصد أي شيء يمكن لجهاز الكمبيوتر الخاص بك القيام به، دون أن يُكتشَف.
بدلا من تكليف الجواسيس بعمليات نقل محفوفة بالمخاطر لبيانات حساسة، يمكن لضابط استخبارات صيني مبدع استخدام هذا الوصول ببساطة لوضع أي ملفات اختراق في مجلدات الألعاب، الاحتمالات هنا لا حصر لها.
ما الحل؟
سيكون من المبالغة أن تفرض الدول حظرا تاما على أي لعبة يدعمها المستثمرون الصينيون. قد يكون النهج الأفضل هو تقييم ألعاب الفيديو بناء على الشفافية، كما يمكن أن تطالب الدول أيضا بتخزين البيانات الحساسة مع مزودي خدمات سحابية موثوقين، أو استخدام القوانين لإجبار تنسنت وشركات الألعاب الصينية على التخلص من الألعاب التي يُعتقد أنها تتوسع في جمع البيانات الحساسة للاعبيها.
المصدر: الجزيرة نت – ترجمات