ربما أُخبِرت يوما أن هناك شخصا ما يشبهك إلى حد التطابق، ولكن هل تخيلت أن يكون هناك شبيه لك في كل شيء، بما في ذلك الشكل والأفعال؟
هذا هو الحال تماما في عوالم “الميتافيرس” (Metaverse) التي تُخطط لخلق عالم افتراضي يحاكي العالم المادي شبرا بشبر وذراعا بذراع، وهنا يأتي الاتجاه التقني الجديد الذي بدأ الحديث عنه فيما يعرف باسم “التوائم الرقمية”.
توائم افتراضية حقيقية
التوأم الرقمي هو نسخة رقمية “افتراضية” طبق الأصل من أي شيء في العالم “المادي”، سواء أكان شخصا أم مؤسسة أم نظاما أم أي شيء آخر. وتضطلع التوائم الرقمية بمهمة فريدة هي المساعدة في تحسين ردود الفعل أو تقديم ردود أخرى لما يحدث في الحياة الواقعية.
ومن ثم، فإن إنشاء هذه التوائم يسدّ الفجوة بين العالم المادي والعالم الافتراضي، وبناء هذه النظائر الرقمية الافتراضية يستند إلى البيانات المولدة من الكيانات المادية، ومن ثم تسمح تلك التوائم بوجود الكيانات الافتراضية بجوار مثيلاتها المادية، وهو الأمر الذي يجعلها تُستَخدم في أغراض مختلفة.
وكانت هذه التوائم في بادئ الأمر مجرد نماذج حاسوبية متطورة ثلاثية الأبعاد، غير أن الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى الجيل الجديد من الإنترنت المعروف باسم “إنترنت الأشياء” (Internet of Things)، مَكَّن هذه التوائم من استخدام أجهزة استشعار وحساسات وأدوات ذكاء اصطناعي جعلها تستطيع ربط الأشياء المادية بالشبكة الرقمية.
وهذا يعني أنه بات بإمكاننا الآن بناء أي شيء رقمي يستطيع التعلم من تلقاء نفسه من نظيره الحقيقي، ومن ثم تطوير نفسه لتوقع ردود الفعل أو القرارات المستقبلية المناسبة التي يتعين عليه اتخاذها.
ولأنه نسخة مطابقة للأصل، فإن التوأم الرقمي يتخذ القرارات نفسها التي يمكن أن تتخذها أنت لو توفرت لك المعطيات ذاتها. وقد يبدو هذا الأمر خيالا علميا، إلا أن البعض يعتقدون أن تلك الرقميات سوف تتضاعف في العقد المقبل، كما يعتقد آخرون أنه ستكون لدينا نسخة أولى من التوائم الرقمية التي تحاكي البشر قبل نهاية العقد الحالي. وقد يبدو هذا للبعض ضربا من الجنون، إلا أن هذا الأمر أصبح ممكنا بشكل يفوق إرادة البعض على قبوله أو تصديقه.
عصر البيانات
ففي الوقت الذي نظن فيه أننا مميزون وفريدون، فإن الذكاء الاصطناعي خطا خطواته الأولى بنجاح، مستخدما وفرة المعلومات المتاحة من حوله لتقديم استدلالات وتفسيرات لكثير من الأشياء مثل شخصياتنا وسلوكنا الاجتماعي وميولنا في الشراء، وأخيرا بإسهامه في فهم أعقد المعضلات البيولوجية وحلها.
ونحن نعيش اليوم عصر البيانات الضخمة، أو ما يعرف باسم “بحيرات البيانات” (Data Lakes)، ومن ثم فإن مواقفك وميولك وتفضيلاتك العلنية وسلوكك كلها خاضعة للجمع.
غير أن كمية البيانات التي تجمعها المنظمات هو الأمر المثير للدهشة، فحسب التقرير الذي نشره موقع “ذا كونفرسيشن” (The conversation)، استحوذت شركة “والت ديزني” في عام 2019 على شركة “هولو” التي يشكك البعض في سجلها الخاص المتعلق بجمع البيانات.
وتشارك معظم التطبيقات على هاتفك في جمع بياناتك، بما في ذلك تطبيق طلب القهوة، فهل يتعين علينا القلق حيال عمليات جمع البيانات تلك؟
دقة الأداء عامل أساسي
يقيس مؤشر “دقة الأداء” مدى تطابق النسخة الرقمية مع أداء الهدف المادي، ومن ثم يعكس هذا المؤشر مدى واقعية التوائم الرقمية مقارنة بالعالم الحقيقي.
ففي تجربة مثيرة، أظهر لاعب في لعبة فيديو خاصة بالقيادة، يستخدم فيها اللاعب لوحة مفاتيح وكابح القيادة، أداء أقل من جهاز محاكاة القيادة، الذي يحتوي على جميع أدوات القيادة الموجودة في العالم الحقيقي من زجاج أمامي ودواسات وغير ذلك.
وتتطلب التوائم الرقمية درجة عالية من دقة الأداء حتى تكون قادرة على دمج كل البيانات الموجودة في العالم الحقيقي في وقت حدوثها الفعلي، وذلك يعني أن السماء لو كانت تمطر في الواقع فإنها ستمطر في جهاز المحاكاة أيضا.
وفي الوقت الحالي، فإن التوائم الرقمية التي تحاكي البشر منخفضة الدقة، إذ تتطلب قدرا هائلا من المعلومات الخاصة بتفضيلات الفرد وانحيازاته وسلوكه، وكذلك بيانات أخرى عن البيئة المادية والاجتماعية المباشرة للفرد من أجل استنتاج التنبؤات الصحيحة.
ومن ثم، فإن ذلك يتطلب مستشعرات هائلة لجمع تلك البيانات ومعالجتها في الوقت الفعلي، وذلك ما يجعل بناء توائم رقمية حقيقية احتمالا بعيدا، على الأقل في المستقبل القريب.
قضايا أخلاقية
ويثير إنتاج التوائم الرقمية عددا من القضايا الأخلاقية التي تتعلق بسلامة البيانات، ومدى دقة التنبؤ التي تنتجها تلك التوائم، ومدى القدرة على مراقبتها وتحديثها، والملكية الخاصة بتلك التوائم ومدى إتاحتها.
وتعتمد التنبؤات الخاصة بالكيفية التي سنتصرف بها على تحليل البيانات التي جُمِعت منا والتي تتعلق بسلوكنا وعاداتنا، ومن ثم فإن الإحصاءات المستقاة من هذه البيانات هي المصدر الأساسي لتلك التنبؤات التي تقوم بها التوائم الرقمية.
غير أن هذه الإحصاءات والأرقام ذات معانٍ محددة تقتصر على أدوات القياس المستخدمة في جمع البيانات وتحليلها، وليست ذات معانٍ مُطلَقة؛ فهذه البيانات اختزالية إلى حد كبير، إما بسبب الملاءمة أو بسبب القيود العملية للتكنولوجيا.
وقد تعمل تلك القياسات بشكل جيد في التنبؤ بسياق محدد، وتفشل في سياق آخر، وذلك يضعنا أمام قضية أخلاقية أخرى تعرف باسم “مغالطة ماكنامارا” أو “المغالطة الكمية” (Quantitative Fallacy) التي تفترض أن الأرقام لها معانٍ مجردة منفصلة عن السياق، ومن ثم تُتَّخذ القرارات استنادا إلى المقاييس الكمية مع تجاهل السياقات الأخرى.
المصدر: ذا كونفرسيشن – مواقع إلكترونية – الجزير نت