في عام 1972، تلّقت البشرية هدية تتمثّل في صورة للكرة الأرضية من الفضاء بألوانها النابضة بالحياة، فيها تحوم الغيوم فوق القارة الإفريقية الشاسعة، والغطاء الجليدي في القطب الجنوبي، في مواجهة اللون الأزرق العميق لمحيطات العالم.
والتقطت الصورة الشهيرة، المعروفة باسم “الرخام الأزرق”، من قبل رواد فضاء وكالة “ناسا” وهم: يوجين سيرنان، ورونالد إيفانز، وهاريسون شميت، بتاريخ 7 ديسمبر/ كانون الأول باستخدام كاميرا “هاسيلبلاد” وعدسة “زايس”، على بعد حوالي 45 ألف كيلومتر من الأرض، بينما كان طاقم رحلة “أبولو 17” يشق طريقه نحو القمر.
وتبرز الصورة التفصيلية لكوكب الأرض، والمؤطرة مقابل الفراغ الأسود للفضاء، رهبة رحلات الفضاء في إطار واحد.
ويُطلق على المشهد “تأثير النظرة العامة”، وهي نقطة الرؤية الفريدة التي يتمتع بها رواد الفضاء للأرض ككوكب على خلفية شاسعة من الكون.
وبعد اكتساب هذا المنظور، أعرب العديد من رواد الفضاء عن شعورهم بقدر أكبر من المسؤولية لحماية كوكبنا وغلافه الجوي الرقيق، إذ يبدو هشًا للغاية من الفضاء.
وقال ستيفن جاربر، المؤرخ في قسم التاريخ لدى وكالة “ناسا”، إن طاقم “أبولو 17” لم يخطط لالتقاط مثل هذه الصورة المميزة، إذ لم تكن مكونًا رئيسيًا في خطة المهمة.
ولكن منذ مشروع “جمناي” في الستينيات، ضمنت وكالة “ناسا” تدريب جميع رواد الفضاء على التصوير الفوتوغرافي لالتقاط الصور التي يمكن أن تنقل تجربة – وعظمة – رحلات الفضاء إلى العالم، حسبما ذكرته تيسل موير-هارموني، أمين متحف أبولو في المتحف الوطني للطيران والفضاء.
وأضافت: “لقد كان جزءًا من هذا الوعي الأكبر بقيمة الصور، ليس فقط من حيث العلم، ولكن أيضًا من حيث الثقافة والسياسة وجميع الجوانب الأخرى التي حفّزت قرار أخذ الكاميرات إلى الفضاء في المقام الأول”.
رمز بيئي
واسترجعت اللحظة إلى عشية عيد الميلاد الأخرى، قبل أربع سنوات، عندما أصبح روّاد فضاء أبولو 8 – فرانك بورمان وجيم لوفيل وويليام أندرس – أول أناس يدورون حول القمر ويشهدون “بزوغ الأرض” بينما ارتفع كوكبنا فوق سطح القمر.
وقال أندرس: “لقد قطعنا كل هذه المسافة لاستكشاف القمر، والأهم من ذلك أننا اكتشفنا الأرض”.
وأصبحت الصور الأولى التي التقطها البشر للأرض خلال بعثات “أبولو” من أكثر الصور تكرارًا على الإطلاق، وبعد 50 عامًا، لا تزال قوتها وتأثيرها قائمين.
ومع ذلك، لم يتردد صدى “الرخام الأزرق” على الفور.
ولم تنشر الصورة على الصفحة الأولى للصحف في جميع أنحاء العالم، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنها واجهت منافسة شديدة من القصص الإخبارية الأخرى.
في ذلك الوقت، كان التدخل الأمريكي في حرب فيتنام يقترب من نهايته، وكان الرئيس الأمريكي حينذاك ريتشارد نيكسون قد شنّ حملة قصف مكثّفة في محاولة لإنهاء الصراع.
وكان الرئيس السابق هاري ترومان مريضًا، وتوفي لاحقًا في 26 ديسمبر/ كانون الأول. وفي الوقت نفسه، انتشرت عناوين الأخبار المثيرة حول أكل لحوم البشر في جميع أنحاء الصحف العالمية بعد اكتشاف الناجين من حادث تحطم طائرة في جبال الأنديز قبل ذلك بأشهر.
ولكن في حين أنّ صورة “الرخام الأزرق” لم تخلق ثورة بين عشية وضحاها، فقد لعبت دورًا مهمًا في الحركة البيئية المتنامية.
وقالت موير-هارموني إن الاحتفال بيوم الأرض الأول حدث بتاريخ 22 أبريل/ نيسان عام 1970. وبمرور الوقت، أصبحت صورة “أبولو 17” صورة لافتة للحدث وجزءًا من أيقونية الحركة الخضراء.
وقبل التقاط الصورة، غالبًا ما ركزت صور الحملة على التلوّث وأقنعة الغاز والأنواع المهدّدة بالانقراض.
رمز للإنسانية
شهدت رحلة “أبولو 17” نهاية برنامج أبولو لاستكشاف القمر، والذي كان مسؤولاً عن تجديد التركيز العلمي على استكشاف الفضاء مع إلهام الجمهور.
وبمرور الوقت، أصبحت صورة “الرخام الأبيض” مرتبطة بالفلسفة وقيمة الاستكشاف والأدوار التي يلعبها العلم والتكنولوجيا في مجتمعنا.
ولفتت موير-هارموني إلى أن الصورة “لها صدى لا يُصدّق، وأضافت: “أصبح انتشار هذه الصورة في كل مكان الآن جزءًا من قصتها”.
وتأتي القصة المفضّلة لدى موير-هارموني عن الصورة من مقابلة أجراها رائد الفضاء يوجين سيرنان بعد عودته إلى الأرض، والذي شدد على أنّ الصورة يجب أن تُفهم من منظور فلسفي، إذ أنها تعد رمزًا للإنسانية.
وقال جاربر: “إنها تمنحك إحساسًا مختلفًا كثيرًا بالعالم الذي نعيش فيه، وأن الحدود الجغرافية والسياسية لا معنى لها حقًا عندما تصل إلى الفضاء”.
وأضاف: “أعتقد أن هذا جزء مما جعل صورة الرخام الأزرق مميزة للغاية”.
المصدر: CNN