قبل أسبوعين أصبحت الصين ثالث دولة في العالم تشغل محطة فضائية دائمة تدعى “تيانغونغ”، وهو إنجاز يعزز مكانة البلاد إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا كواحدة من أكبر ثلاث قوى فضائية في العالم.
لكن كيف نظرت واشنطن إلى هذه الخطوة، التي تتلوها خطوات واسعة من بكين لتطوير نشاطها الفضائي؟ ولماذا لم تنضم الصين إلى المحطة الفضائية الدولية التي تعمل منذ 30 عاماً وكانت مثالاً كلاسيكياً للتعاون الفضائي بين الدول؟ وهل سيكون هناك تأثير لتصاعد التوترات الأخيرة مع الغرب وإيقاف تشغيل محطة الفضاء الدولية عام 2030 في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة؟
علامة فارقة
لم تعد محطة الفضاء الدولية هي المكان الوحيد الذي يمكن أن يعيش فيه البشر في المدار، ففي 29 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وبعد عقود من السرية العسكرية، فتح المسؤولون الصينيون مركز إطلاق الصواريخ في الصحراء أمام عدد قليل من الزوار ليشهدوا انطلاق مهمة “شنتشو 15” من صحراء غوبي الصينية وعلى متنها ثلاثة رواد فضاء.
وبعد ست ساعات وصلوا إلى محطة الفضاء الصينية التي اكتمل تشييدها أخيراً، وتدعى “تيانغونغ”، وتعني “القصر السماوي” بلغة الماندرين الصينية، حيث حل رواد الفضاء الثلاثة محل الطاقم الحالي الذي ساعد في إنهاء بناء المحطة، وبهذه المهمة الناجحة أصبحت الصين ثالث دولة تشغل محطة فضائية دائمة كثمرة لجهود بدأت قبل ثلاثة عقود حين اتخذت الحكومة الصينية قراراً بتنفيذ برنامج الفضاء المأهول في سبتمبر (أيلول) 1992 على ثلاث مراحل استراتيجية.
على رغم نجاح مهمة برنامج أرتميس هذا الشهر بإطلاق مركبة “أوريون” الفضائية غير المأهولة بالبشر استعداداً لتحليق رواد الفضاء إلى سطح القمر، اعتبرت واشنطن هذه الخطوة علامة أخرى فارقة وضعتها الصين في سباقها للحاق بالولايات المتحدة وتجاوزها باعتبارها القوة المهيمنة في الفضاء، إذ إن المحطة الفضائية ستمنح بكين موطئ قدم في الفضاء ومنصة لإجراء تجارب علمية، بعد أن أحرزت تقدماً متسارعاً من تلقاء نفسها، حيث هبطت مركبة فضائية على الجانب البعيد من القمر في عام 2019، إضافة إلى مركبة فضائية على سطح المريخ العام الماضي.
منافس شرس
وفيما تصاعدت التوترات بين الصين والولايات المتحدة على أكثر من صعيد خلال السنوات الأخيرة، انضم التنافس الفضائي للصراع حيث وجه بيل نيلسون، مدير وكالة ناسا الفضائية الأميركية انتقادات إلى الصين بعد أن سقط حطام إحدى مراحلها الصاروخية على الأرض وهدد حياة البشر، كما وصف الصين بأنها منافس شرس للغاية لديه طموحات كبيرة في الفضاء ويتحدى الريادة الأميركية.
وأشارت صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن قلق نيلسون من الصين تطابق مع خطاب نائب الرئيس السابق مايك بنس، الذي دفع “ناسا” إلى إعادة رواد الفضاء إلى سطح القمر في جدول زمني سريع. وحذر عام 2019 من أن الصين تحاول الاستيلاء على الأرض القمرية الاستراتيجية المرتفعة وتصبح الدولة التي ترتاد الفضاء في العالم.
هل يتغير المشهد؟
وفي تقرير أصدرته وكالة الاستخبارات الأميركية في أبريل (نيسان) من العام الماضي لتقييم التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة، صور التقرير محطة “تيانغونغ” الصينية بأنها خطوة أخرى في جهود الحكومة الصينية لمجاراة أو تجاوز القدرات الأميركية في الفضاء لتحقيق الفوائد العسكرية والاقتصادية والهيبة التي اكتسبتها واشنطن من القيادة الفضائية الأميركية التي امتدت لعقود طويلة، كما صور الكاتب في “واشنطن بوست” جيمس هوفمان المحطة على أنها جزء من سباق الفضاء الجديد الذي يعرض الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر.
واعتبر أستاذ إدارة الفضاء في جامعة إنديانا إيتان تيبر، وأستاذ قانون الأعمال في الجامعة نفسها سكوت شاكلفورد، أن التشغيل الناجح للمحطة الدائمة الصينية يمثل خطوة مهمة للصين نحو تحقيق طموحات فضائية أكبر من شأنها أن تشكل المشهد المتغير لديناميكيات القوة في الفضاء، بخاصة أن بناء وإدارة المحطة تم بالكامل في الصين على عكس محطة الفضاء الدولية التعاونية التي تشارك فيها روسيا ودول عدة أخرى بقيادة الولايات المتحدة، وبدأت في التقادم بعد نحو عقدين من العمل، حيث من المقرر أن يتوقف تشغيلها عام 2030 بينما تتطلع واشنطن إلى القطاع الخاص لبناء مرافق لاستبدال المحطة الفضائية بعد إيقاف تشغيلها، ولكن ليس من الواضح أنها ستكون جاهزة في الوقت المناسب.
خطط مقلقة
لدى الصين أيضاً خطط لإرسال رواد فضاء إلى القمر، في جهد يؤكد المسؤولون الصينيون أنه لن يستغرق وقتاً طويلاً، الأمر الذي من شأنه أن ينافس حملة “ناسا” القمرية المعروفة باسم “برنامج أرتميس”، الذي تشارك فيه 19 دولة ويهدف إلى بناء موطن مكتف ذاتياً على القمر، مما يثير القلق في الولايات المتحدة، التي سعت إلى تحديث القواعد المعروفة باسم “اتفاقيات أرتميس”، التي تحكم السلوك في الفضاء وعلى سطح القمر والأجرام السماوية الأخرى، بينما تتنافس كل من الصين والولايات المتحدة على استكشاف القطب الجنوبي للقمر، حيث توجد المياه على شكل جليد.
ويعود سبب تراخي الولايات المتحدة في سباق الفضاء إلى أن وكالة ناسا تقدمت في استكشاف الإنسان للفضاء العميق بشكل متقطع منذ برنامج “أبولو” للهبوط على سطح القمر في سبعينيات القرن الماضي، نظراً إلى أن الإدارات الرئاسية المختلفة في البيت الأبيض منحت “ناسا” أهدافاً مختلفة، من القمر إلى المريخ ثم الكويكبات، ثم العودة إلى القمر مرة أخرى، في الوقت الذي تحركت فيه الصين ببطء وثبات نحو أهدافها.
سبب تراخي “ناسا”
ويقول تشارلز بولدن، الذي قاد وكالة ناسا خلال إدارة الرئيس أوباما، إن ميزانيات الصين الوفيرة والتخطيط الطويل الأمد يعطيانها ميزة على الولايات المتحدة، حيث انقسم الكونغرس في شأن نفقات الفضاء، في حين تحركت الصين بسرعة وبموارد غير محدودة ولم يكن عليهم العودة إلى السياسيين للموافقة على النفقات.
ويشير تشو جيان بينغ، كبير مصممي برنامج الفضاء المأهول في حديث لصحيفة “نيويورك تايمز”، إلى أن الصين أنفقت الأموال بكفاءة على برنامجها الفضائي، وأن محطتها الفضائية لم تتكلف أكثر من ثمانية مليارات دولار، وهذا رقم كبير بالنظر إلى الأجور وكلف المعيشة المنخفضة بالنسبة إلى المجتمع الكبير من علماء الصواريخ الذين يعيشون ويعملون في مركز إطلاق جيوكوان، بينما على النقيض من ذلك، ستنفق “ناسا” ثلاثة مليارات دولار هذا العام فقط على محطة الفضاء الدولية، والتي تكلفت أكثر من 100 مليار دولار لبناء وصيانة المحطة على مدى حياتها.
حافز آخر للصين
غير أن أحد الأسباب التي دفعت الصين إلى تسريع برنامجها الفضائي ربما يعود إلى حظرها من المشاركة في محطة الفضاء الدولية، التي تستضيف رواد فضاء من الولايات المتحدة وروسيا ودول أخرى لأكثر من عقدين، حيث لا يمكن للصين إرسال روادها إلى محطة الفضاء الدولية، وفقاً لقانون وولف الذي أقره الكونغرس الأميركي عام 2011، ويحظر أي تعاون أميركي مع برنامج الفضاء الصيني بسبب مخاوف من سرقة التكنولوجيا أو أخطار على الأمن القومي.
وفي حين أعلن الرئيس الصيني شي جينبينغ أن بلاده مستعدة للعمل مع الدول الأخرى لتعزيز الاستكشاف المشترك لألغاز الكون، والاستخدام السلمي للفضاء الخارجي، لإفادة شعوب جميع دول العالم بشكل أفضل، لم تبد الدول الأوروبية والولايات المتحدة اهتماماً حتى الآن بمحطة “تيانغونغ”، إذ كان المسؤولون في أوروبا حذرين من توثيق التعاون الفضائي مع الصين في وقت تتصاعد فيه الخلافات في شأن سجل الصين في مجال حقوق الإنسان والحشد العسكري، كما طلبوا من الصين مشاركة معلومات مفصلة للغاية حول عملياتها الفضائية، لضمان سلامة رواد الفضاء، لكن برنامج الفضاء الصيني الذي نشأ أصلاً من الجيش كان حذراً من المشاركة المكثفة، مثل السنوات الأولى لبرنامج الفضاء الأميركي.
ومع ذلك فإن بعض الباحثين الأوروبيين يشاركون في التجارب العلمية التي سيتم نقلها إلى “تيانغونغ”، بما في ذلك كاشف الإشعاع الكوني عالي الطاقة المقترح، كما تلقى باحثون من الهند وبيرو والمكسيك والسعودية فرصاً بحثية حول محطة الفضاء الصينية من خلال برنامج للأمم المتحدة، وفق ما أشارت صحيفة “واشنطن بوست”.
قدرات “تيانغونغ”
تعد محطة “تيانغونغ” الفضائية تتويجاً لثلاثة عقود من العمل في برنامج الفضاء الصيني المأهول، حيث يبلغ طول المحطة 180 قدماً (55 متراً) وتتألف من ثلاث وحدات تم إطلاقها بشكل منفصل وتجميعها في الفضاء، ويصل حجمها إلى 3884 قدماً مكعبة (110 أمتار مكعبة)، أي نحو خمس حجم محطة الفضاء الدولية التي يصل اتساعها إلى ملعب كرة قدم، وتحتوي المحطة أيضاً على ذراع آلية خارجية، يمكنها دعم الأنشطة والتجارب خارج المحطة، وثلاثة منافذ لرسو السفن الفضائية التي ستتردد عليها من أجل إعادة إمداد المحطة.
لكن في حين أن “تيانغونغ” قد تعزز مكانة الصين كدولة ترتاد الفضاء، فإن خبراء الفضاء لا يرون ذلك على أنه إنجاز على نطاق محطة الفضاء الدولية، حيث يوضح سكوت بيس، مدير معهد سياسة الفضاء في كلية إليوت للشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن، أن المحطة الصينية تشبه محطة “مير” السوفياتية القديمة، وقد لا تمثل تقدماً تقنياً كبيراً على محطة الفضاء الدولية، وهو ما يؤيده جوناثان ماكدويل عالم الفيزياء الفلكية في جامعة هارفرد على رغم التحسينات التي ربما أضيفت على المحطة الصينية.
وظيفة المحطة الصينية
ومع ذلك، من المقرر أن تبقى محطة الفضاء الصينية في المدار لمدة 15 عاماً، مع خطط لإرسال مهمتين مأهولتين إليها كل ستة أشهر ومهمتين للشحن سنوياً، وتتمثل الوظيفة الرئيسة لمحطة “تيانغونغ” في إجراء بحث عن الحياة في الفضاء، وهناك تركيز خاص على التعلم عن نمو وتطور أنواع مختلفة من النباتات والكائنات الحية الدقيقة في الفضاء، وهناك أكثر من 1000 تجربة مخطط لها على مدى السنوات العشر المقبلة، كما بدأت التجارب العلمية بالفعل، مع دراسة مخططة تتضمن تكاثر القرود التي تبدأ في خزانات الاختبار البيولوجية بالمحطة.
وستساعد “تيانغونغ” كذلك في دعم مهام الفضاء المستقبلية للصين، إذ تخطط بكين في ديسمبر (كانون الأول) عام 2023 لإطلاق تلسكوب فضائي جديد يسمى “شونشيان”، سيعمل على رسم خريطة للنجوم والثقوب السوداء الهائلة ضمن مشاريع أخرى بدقة تشبه تقريباً تلسكوب هابل الفضائي ولكن مع رؤية أوسع، وسيلتصق التلسكوب بشكل دوري بالمحطة للصيانة، كما تخطط الصين أيضاً لإطلاق بعثات متعددة إلى المريخ والمذنبات والكويكبات القريبة بهدف إعادة العينات إلى الأرض.
هل يتغير التعاون الفضائي؟
لكن الأهم من ذلك، أن الصين أعلنت خططاً لبناء قاعدة مشتركة على القمر مع روسيا على رغم عدم تحديد جدول زمني لهذه المهمة التي فتحتها الصين أيضاً أمام دول أخرى، بعد أن ألغت السويد وفرنسا ووكالة الفضاء الأوروبية المهام الفضائية المخططة مع روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، وهو ما يعني أن خريطة التعاون الفضائي في السنوات المقبلة قد تتغير بفعل الأحداث المتطورة سريعاً على الأرض.
ومع تصاعد التوترات بين الصين وروسيا من جانب، والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جانب آخر، وامتداد بعض هذه المناورات إلى الفضاء، سيظل العالم في حالة ترقب لما يمكن أن يسفر عنه إيقاف تشغيل محطة الفضاء الدولية عام 2030 وتشغيل محطة “تيانغونغ” على علاقة الصين مع الولايات المتحدة.
وإذا كانت المصافحة الشهيرة بين رواد الفضاء الأميركيين ورواد الفضاء السوفيات أثناء الدوران حول الأرض عام 1975 ما زالت بعيدة المنال بين الصينيين والأميركيين، فإن التعاون بين بكين وواشنطن يمكن أن يفعل الكثير لتهدئة التوترات على الأرض وفي الفضاء.
المصدر: اندبندنت