في الرابع من مارس، انتهت الرحلة الجامحة لمرحلةٍ صاروخية مُستهلَكة وزنها أربعة أطنان نهايةً ملفتة للأنظار، بعد أن استغرقت تلك الرحلة سبع سنواتٍ ونصف عبر الفضاء.
إذ اصطدمت هذه المرحلة الصاروخية بالجانب البعيد من القمر، بالقرب من فوهة “هرتسبرونج” Hertzsprung التي يبلغ عرضها 570 كيلومترًا.
وعلى الرغم من أنَّ كوكب الأرض قد شهد من قبل سقوط مثل هذه النفايات الفضائية من السماء، حيث يحترق معظمها في الغلاف الجوي، أو تسقط في المحيطات، إلا أنَّ تلوث سطح القمر بقطعةٍ كبيرة من تلك المخلفات الفضائية البشرية أثار حالةً من القلق في جميع أنحاء العالم.
بماذا علينا أن نشعر جميعًا حيال هذا الاصطدام؟ هل نكتفي بالتعبير عن يأسنا من الأفعال الطائشة لبني البشر؟ أو على الأقل نومئ بإيماءاتٍ غاضبة ونحن نبوح بشكوانا؟ بدلًا من ذلك، عبَّر الكثير من باحثي المجال عن لامبالاتهم بهذا الحدث، ومنهم جون كراسيديس، خبير الحطام الفضائي في جامعة بافالو الأمريكية، الذي يرى أنَّ هذا الحادث “ليس بالخطب الجلل”.
فأولًا، وقبل كل شيء، لن يتسبب سقوط مثل هذا الصاروخ في أي اختلالٍ بذلك الجرم السماوي المرمري الذي ينير سماء الأرض؛ فكما يؤكد سطحه المليء بالفوهات، يمكن لقمرنا أن يتحمل جميع أنواع الصدمات الهائلة، ويقول كراسيديس عن ذلك: “لا تقلقوا؛ فقمرنا سيصمد”.
لكن ماذا عن تناثُر تلك النفايات القبيحة على سطح قمرنا المعروف بنظافته؟ فهذا الصاروخ انضمَّ بسقوطه إلى عديدٍ من أكوام الحطام الفضائي الأخرى المتناثرة بالفعل على سطح القمر، لكنَّ أليس جورمان، عالِمة آثار الفضاء في جامعة فليندرز بأستراليا، تقول عن سقوطه: “لا أعتقد أنَّ هذا الصاروخ مسألةٌ مهمةٌ حاليًّا”، والسوابق تشير إلى أنَّه ليس هناك داعٍ للقلق، على الأقل في الوقت الحالي.
الشيء الوحيد الذي علينا أن نقلق بشأنه فيما يتعلق بهذا الاصطدام الوشيك هو ما يعنيه بالنسبة لمستقبلنا؛ فهناك دولٌ كثيرة، منها الولايات المتحدة والصين وروسيا، تعتقد أكثر فأكثر بأنَّ القمر سيصبح المستوطنة الأولى للبشرية في الفضاء الخارجي.
ويقول فيشنو ريدي، المدير المشارك لمختبر التوعية بأحوال الفضاء في جامعة أريزونا: “ما نأمله هو أن نعود إلى القمر لنمكث فيه، وبالتأكيد لا نريد أن تنهمر هذه النفايات على الناس حين يعيشون هناك”.
ليست المرة الأولى
انكشف مسار اصطدام هذه المرحلة الصاروخية بالقمر في يناير الماضي، بالأساس من خلال العمل البحثي الذي أجراه بيل جراي، عالِم الفلك المسؤول عن “مشروع بلوتو” Project Pluto، وهو سلسلةٌ مشهورة من البرامج المستخدمة لتتبُّع الأجسام التي تتحرك بسرعةٍ كبيرة على مقربةٍ من الأرض.
لكنَّ الكيفية التي وصل بها الصاروخ إلى هناك في الأساس ما زالت غامضة، في البداية، اعتقد جراي أنَّ تلك المرحلة الصاروخية تتبع شركة “سبيس إكس” SpaceX، وأنَّها من مخلَّفات عملية الإطلاق التي جرت في عام 2015، والتي كان هدفها إيصال القمر الصناعي الخاص بـمرصد مناخ الفضاء العميق، التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي.
لكن، على ما يبدو، أخطأ جراي في تحديد هوية الصاروخ، وحين درس بعد ذلك مسار المرحلة الصاروخية وتوقيت رحلتها، تبيَّن أنَّها على الأرجح مملوكةٌ للصين، وأنَّها ربما تكون معزز صواريخ استُخدم في عام 2014 خلال إطلاق بعثة “تشانج إي 5- تي 1″، التي كانت رحلةً تجريبيةً لبعثة “تشانج إي 5″، البعثة التي أطلقتها الصين إلى القمر في عام 2020 بهدف جلب عيناتٍ من على سطحه.
ويتفق علماء فلك آخرون مع استنتاج جراي الجديد، منهم ريدي وطلابه في جامعة أريزونا، الذين رصدوا ذلك الجسم باستخدام التليسكوب لتحديد سماته المتنوعة، التي تبيَّن أنَّها تشبه السمات الملحوظة عادةً في صواريخ الفضاء الصينية.
وربما يكشف تطورٌ مفاجئ آخر أنَّ الصاروخ يتبع دولةً أو شركةً أخرى، وربما لا، على أي حال، يقول جوناثان ماكدويل -عالِم الفلك في مركز هارفارد سميثسونيان للفيزياء الفلكية- إنَّه “واثقٌ بقوانين نيوتن”، أي أنَّه مهما كانت أصول ذلك الجسم، فبالتأكيد سيكون قد ضرب القمر في الرابع من مارس.
وعندما يحدث ذلك، سينضم هذا الجسم إلى قائمةٍ طويلةٍ من الأسلاف، وتقول جورمان عن ذلك: “هناك أعدادٌ كبيرة من الأجسام التي اصطدمت بالقمر في الماضي”؛ فصحيحٌ أنَّ عمليات هبوط بعثات أبولو ربما تكون أشهر مغامراتنا على القمر، إلَّا أنَّ أول مرةٍ نلمس فيها سطحه مباشرةً كانت أقل سلاسةً بكثير، كان هذا عام 1959، حين تعمَّد الاتحاد السوفيتي أن يصدم سطح القمر بالمركبة غير المأهولة “لونا 2″، التي كانت مسبارًا فضائيًّا مُزيَّنًا بعددٍ كبير من الشعارات الدعائية.
الزلازل القمرية
منذ ذلك الحين، تعرَّض القمر لجميع أنواع حوادث التصادم الاصطناعية؛ فخلال فترة بعثات أبولو، أُلقيت أجزاء عديدة من صواريخ “ساترن 5” عمدًا على القمر؛ لإحداث زلازل قمرية يمكن رصدها بمعدات التجارب الزلزالية التي وضعها رواد الفضاء هناك، وفي عام 2009، استُهدف القمر على يد بعثةٍ تابعة لوكالة ناسا، كانت مصممةً خصوصًا لذلك الهدف؛ إذ ألقى القمر الصناعي لرصد واستشعار فوهة القمر (LCROSS) صاروخه المُستهلَك نحو القطب الجنوبي لقمرنا، مطلقًا كتلةً من الصخور والجليد المائي في الفضاء درسها العلماء عن بُعد.
ولا يقتصر الأمر على أجزاء الصواريخ؛ فهناك مركباتٌ فضائية عديدة اختارت القمر ليكون مثواها الأخير، وبعض هذه الحوادث كان متعمدًا؛ ففي السنوات الأخيرة، وُجِّهت بضعة مسابير تابعة لليابان ولوكالة ناسا كي تصطدم بسطح القمر وتتحطم، بعد أن انتهت من أداء مهماتها، وهناك حوادث أخرى غير مقصودة، منها حادثة المركبة الفضائية الإسرائيلية “بيريشيت”، التي كان من المفترض أن تهبط على سطح القمر في عام 2019، لكنَّها تعرضت لأعطالٍ نجم عنها سقوطها فجأةً وتحطُّمها.
وعلى الرغم من هذا التاريخ الطويل من حوادث التصادم مع القمر، فإنَّ بعض مواقعه تحظى لدينا بمكانةٍ أكبر من غيرها، ومن ثم فهي تحتاج إلى قدرٍ أكبر من الحماية، على سبيل المثال، ماذا لو اصطدمت قطعةٌ شاردة من الحطام الفضائي بقاعدة “ترانكويليتي”، حيث هبطت بعثة “أبولو 11”.
ووضع البشر أقدامهم لأول مرةٍ على سطح عالمٍ آخر؟ لحسن الحظ، فإنَّ فرص حدوث مثل هذا الأمر ضئيلةٌ من الناحية الفلكية، بالإضافة إلى أنَّ حادثة التصادم الأخيرة هذه لم يكن من المحتمل أن تقضي على أي جزءٍ من تاريخ استكشاف الفضاء، فقد حدثت في الجانب البعيد من القمر، الذي لم يشهد سطحه تقريبًا أي بعثاتٍ استكشافية.
ومع أنَّ وقوع هذا التصادم في الجانب البعيد من القمر يُعَد خبرًا جيدًا لتاريخ بعثاتنا الفضائية، إلَّا أنَّ موقعه لم يكن مناسبًا للعلماء، الذين ربما كانوا يأملون رصد الحدث بالتلسكوبات.
ودراسة كتل الصخور والجليد الناتجة عنه، وهؤلاء ليسوا الوحيدين الذين فاتهم رصد الحادثة؛ فموقعها المحتمل لم توجد بالقرب منه أي أدواتٍ علمية قادرة على تسجيل أي بياناتٍ في أثناء التصادم.
ولاحقًا ستتحرك المركبة المدارية الاستطلاعية القمرية (LRO) التابعة لوكالة ناسا فوق موقع الاصطدام، بحثًا عن أي فوهةٍ تشير إلى حدوثه، لكن حتى في حالة تحقُّق ذلك، فلن تكشف تلك الفوهة أي معلوماتٍ مفيدة تقريبًا.
عاصفةٌ مطيرة من الصواريخ
أما بالنسبة لأولئك الذين ما زالوا يبحثون جاهدين عن أسبابٍ تدفعهم للقلق بشأن هذا الحدث، فلا يتبقَّى لهم الآن سوى مجموعةٍ من المخاوف بشأن تداعياته على عمليات استكشاف القمر في السنوات والعقود القادمة، فمن ناحية، تقول جورمان إنَّ الجدل الناشب حول أصول المرحلة الصاروخية “يسلط الضوء على عدم وجود أي منظومةٍ شاملة لتتبُّع الحطام المنتشر على سطح القمر”.
ومعظم الجهود الهادفة إلى دراسة هذا الحطام يتولاها علماء الفلك من أمثال جراي، وليس الوكالات الحكومية مثل قوة الفضاء الأمريكية، التي تتعقب الأجسام الواقعة في المجال المداري للأرض؛ هذا لأنَّ الحطام الذي يتجاوز مدى الأقمار الصناعية ثابتة المدار بالنسبة للأرض لا يثير قلقًا كبيرًا لمعظم الدول في الوقت الحاضر.
ويقول ماكدويل عن ذلك: “بمجرد أن يتجاوز الحطام مدى خمسين ألف كيلومتر، تبدأ درجة اهتمام قوة الفضاء الأمريكية به في الانخفاض، وبوصوله إلى مدى مئة ألف كيلومتر، ينعدم اهتمامها به تقريبًا”.
أحد أسباب هذا التراجع في الاهتمام بالحطام الفضائي هو صعوبة تتبُّعه في الفضاء السحيق، وعن ذلك يقول ريدي: “إنَّه أمرٌ صعبٌ حقًّا”، سواءٌ كنت تستخدم الرادار أو طرق التتبُّع البصري، مضيفًا: “فالأشياء تكون أبعد، وتبدو أصغر وأكثر خفوتًا، عليك حينها أن تقلق على هذا الجسم العاكس الضخم المُسمَّى بالقمر”.
ويتابع ريدي موضحًا أنَّ هذا الأمر لا يمثل مشكلةً في الوقت الحالي، لكن “خلال السنوات الثماني أو العشر القادمة، سيكون لدينا على الأقل 50 بعثةً قمرية”.
وسيصبح هناك عددٌ كبير من المسابير الفضائية في المدار، وربما يكون هناك رواد فضاء أمريكيون وروس وصينيون، يركبون مركباتٍ فضائيةً متجهة إلى سطح القمر، أو يسكنون في محطاتٍ فضائية، مثل مشروع البوابة القمرية الذي اقترحته وكالة ناسا.
في النهاية، ستكون هناك كمياتٌ كافية من مخلَّفات سفننا وأدواتنا سابحةً في الفضاء حول القمر أو بالقرب منه، بحيث يصبح من الممكن لجسمين أن يصطدما معًا هناك؛ ففي أكتوبر الماضي مثلًا، اضطرت المركبة الفضائية الهندية “شاندرايان-2” إلى المناورة كي تبتعد عن طريق المركبة المدارية الاستطلاعية القمرية التابعة لناسا، ويقول كراسيديس عن ذلك: “نحن نناور طوال الوقت في المدار القريب من الأرض، وقد تظن أنَّنا لسنا بحاجة إلى إجراء مثل هذه المناورات حول القمر”.
وهذا الانتشار المرتقب للبعثات في مدار القمر يعني أنَّ سطحه من المتوقع أن يصبح أكثر ازدحامًا أيضًا، بالإضافة إلى أنَّ هناك اقتراحاتٍ لإقامة العديد من القواعد القمرية، والمنشآت العلمية، ومواقع التعدين.
لكن كما أوضحت هانا سارجنت، عالِمة الكواكب بجامعة سنترال فلوريدا، فلسوء الحظ “لا يمكن للقمر عديم الهواء أن يحمي نفسه من الحطام المتساقط عليه مثلما يفعل كوكب الأرض، الذي تحترق معظم الأجسام عند دخولها إلى غلافه الجوي”.
وصحيحٌ أنَّ هذا سيظل مستبعدًا لفترةٍ طويلة، لكن من الممكن أن تتسبب قطعةٌ من النفايات الفضائية المتساقطة يومًا ما في سحق أحد مستكشفي القمر وتسويته بالأرض، وحتى لو نجت جميع المواقع المعرضة للخطر على سطح القمر من تلك النفايات المتساقطة، فقد تتعرض الأدوات والمركبات الموجودة بالمدار لتبعاتٍ مدمرة من سقوطها؛ فالحصى والغبار الذي ستطلقه إلى الفضاء يمكن أن يصطدم بالمركبات الفضائية، أو حتى يثقبها، ويقول ماكدويل عن ذلك: “يبدو الأمر كما لو كنت تطلق صاروخًا شبه مداري؛ فالحصى المندفع من القمر سيصبح كما لو كان أسلحةً قمريةً مضادةً للأقمار الصناعية”.
ويرى ريدي أنَّنا لو وضعنا كل ذلك في الاعتبار “فمن المنطقي أن نرصد أماكن وجود تلك النفايات وماهيتها”، ليس للتعامل مع مشكلةٍ قائمة حاليًّا، لكن للحد من مشكلةٍ قد تواجهنا في المستقبل.
وقد بدأ ريدي وزملاؤه بجامعة أريزونا في العمل على ذلك بالفعل؛ فقد حصلوا للتو على تمويلٍ يبلغ 7.5 ملايين دولار من القوات الجوية الأمريكية، لإعداد دليلٍ للأجسام القريبة من القمر وتحديثه باستمرار، وتقديم الدعم للبعثات القادمة لكي تتمكن من تفادي الحطام، ويقول ريدي إنَّ هذه الجهود الأولية “يمكن للجيش الأمريكي أن يتولى إدارتها عندما تتفاقم المشكلة”.
ومع ذلك، فلدينا وقتٌ طويل قبل أن تبدأ مشكلة النفايات الفضائية على القمر في الاقتراب من حجم المأساة الجلية في مدار كوكبنا، وعن ذلك يقول ماكدويل: “حتى بعد عقودٍ قليلة من الآن، أعتقد أنَّ الأمر لن يكون بمثل خطورة مشكلة النفايات الفضائية الحالية في المدار القريب من كوكبنا”، لا يعني ذلك إطلاقًا أنَّ علينا أن نتجاهل تلك المشكلة، لأنَّه لا أحد بالتأكيد يرغب في مواجهة مشكلات الأرض على القمر كذلك.
وختم جراي تعليقه قائلًا: “ربما يتعين علينا أن نقول إنَّنا هذه المرة سنفكر قبل الأوان بوقتٍ أطول قليلًا”.
المصدر: للعِلم