قبل عشرات الملايين من السنين، كان ثمة نوع من القوارض المتقزمة يعيش وسط غابات استوائية على أرض مصر. هذا النوع لم يكن معروفا حتى أوائل ستينيات القرن الماضي، عندما اكتشف علماء جامعة دوك الأميركية حفريات هذه القوارض، ليظهر الخيط الأول من قصة “السفروت”.
الباحثة المصرية شروق الأشقر، ومعها فريق بحثي يتبع مجموعة “سلام لاب” بجامعة المنصورة، وبالتعاون مع جامعات أجنبية، التقطوا الخيط الأول من حكاية هذه الحفريات عام 2017، لينسجوا قصة مكتملة وأكثر وضوحًا عن “سفروتيسس”، وهو نوع من القوارض المتقزمة، عاش قبل 34 مليون سنة في مصر.
ومؤخرًا، نشرت دراسة علمية في دورية “بير جيه” العلمية المرموقة، وثقت قصة هذا النوع الغامض من القوارض، وهي الحكاية التي تكشفها الباحثة المصرية شروق الأشقر لقراء موقع “سكاي نيوز عربية”.
كيف بدأت القصة؟
الباحثة المصرية شروق الأشقر، التي عكفت على إعداد الدراسة إلى جانب زملائها، تستعيد قصة “السفروت” المصري من بدايتها؛ إذ تقول: “في البداية كان علم الحفريات الفقارية حكرا على البعثات الأجنبية، لكن في الفترة الأخيرة بدأت مجموعة “سلام لاب” التابعة مركز الحفريات الفقارية بجامعة المنصورة تتصدى بقوة للدراسات العلمية في هذا المجال”.
وتضيف الأشقر لموقع “سكاي نيوز عربية”: “لم نتوقف عند اكتشاف الحفريات الجديدة فحسب، لكن بدأنا نستعيد الحفريات القديمة التي أكتشفت منذ عشرات السنوات، ومنها حفريات علماء جامعة دوك التي بدأت من منتصف الستينيات حتى عام 2012”.
وتتابع: “العينات الخاصة بنوع القوارض المكتشف، تعود لعينات اكتشفتها جامعة دوك الأميركية، وهي عبارة عن جمجمتين، وعدد من الفكوك، والتي كانت هشة إلى حد كبير، ويلتصق بها طين صخري، وبالتالي كان يصعب فحصها بشكل يدوي، لذا بدأنا العمل عليها عام 2017، وقمنا بإجراء أشعة ” تصوير طبقي مبرمج مكروي”، لتتاح لنا دراستها بشكل رقمي”.
نتائج مذهلة
بعد دراسة مستفيضة، توصل الفريق البحثي إلى أن هذه القوارض الغامضة تنتمي إلى مجموعة غامضة من القوارض، حفرياتها نادرة، وتسمى “فايروكريستوميني”، وهي قوارض عاشت في الكتلة الأرضية الأفروعربية.
وقاد تشابه الصفات التشريحية بين الحفريات المكتشفة والـ”فايروكريستوميني” إلى التأكد من العلاقة بينهما؛ وتمثلت أوجه التشابه في الحجم، وشكل تضاريس الأسنان؛ حيث لم يتخط حجم السن الواحد 1 ملليمتر، كما لم يتجاوز حجم الجمجمة 1.5 سنتيمتر.
وتقول الباحثة المصرية إن من خلال إجراء بعض المعادلات الرياضية المرتبطة بقياسات الأسنان، تم التوصل إلى الحجم التقريبي لنوع القوارض المسمى بـ”سفروتيسس”، والمقدر بحوالي 45 غرام.
كما أجرى الباحثون مقارنات تشريحية بين العينات الموجودة لديهم وبين العينات الأخرى المكتشفة في الكتلة الأرضية الأفروعربية، ووجدوا أن “سفروتيسس”، يختلف تمامًا عن باقي الأنواع الموجودة، وتجلت أبرز الاختلافات في الصفات التشريحية للأسنان العلوية والسفلية.
ومن بين العلامات البارزة في هذه الدراسة أنها تسجل – لأول مرة في التاريخ – أول عظام لجمجمة تنتمي لهذه المجموعة الغامضة من القوارض.
أين عاش السفروت؟
قبل 34 مليون عام عاش القارض المكتشف حديثًا في منطقة جبل قطراني بمنخفض الفيوم حاليًا، وهي منطقة كانت تتميز في هذا التوقيت بالمناخ الاستوائي المطير؛ إذ كانت تضم عددا ضخما من الأشجار العملاقة التي كانت بمثابة موطن لهذا القارض.
وكانت هذه الغابات تضم كل ما تحويه الغابة من حيوانات، وتشير الأشقر إلى أنه توجد بهذه المنطقة حاليا جذوع أشجار متحجرة، يصل طولها إلى عدة أمتار.
وعن تسمية نوع القارض الجديد بـ”سفروتيسس”، تقول الأشقر إن التسمية نبعت من الثقافة المصرية؛ إذ تستخدم كلمة “سفروت” للتعبير عن الأشياء متناهية الصغر، وهو ما يتوافق مع حجم القارض المتقزم، كما تمت تسمية جنسه باسم “قطرانيسس”، نسبة لجبل القطراني، الذي عثر فيه على الحفرية، وكان يعيش فيه قبل ملايين السنين.
وترجع الأشقر سبب اختفاء هذه القوارض من مصر لتغيرات المناخ التي حدثت، عندما حلّت البرودة محل الطقس الاستوائي، وهاجرت هذه القوارض إلى مناطق استوائية جديدة أكثر دفئًا مثل جنوب وغرب إفريقيا، وعبرت المحيط الأطلنطي واستقرت أيضًا في أميركا الجنوبية.
ونتيجة للعملية التطورية، يوجد حاليًا أحفاد لهذه القوارض حاليًا في دول جنوب وغرب إفريقيا، تسمى “الكين رات”، وهي قوارض في حجم الأرانب تقريبًا تتغذى عليها المجتمعات المحلية هناك والتي تعرف أيضًا بفئران القصب.
ومن المفارقات أن من بين أحفاد السفروت، أكبر قارض عملاق يعيش حاليًا على الأرض في أميركا الجنوبية، يطلق عليها “كابي بارا” أو “خنزير الماء”، كما كان يوجد من أحفاده فأر “جوزيفوارتيجاسيا” وهو فأر منقرض، تقول حفرياته إن وزنه وصل إلى طن تقريبًا.
وتضيف الباحثة المصرية: “البعض قد يتخيل البعض أن حجم السفروت المكتشف قد يكون صغير السن فقط وليس قارض متقزم، لكن دراستنا أشارت إلى أن هذا النوع وصل إلى مرحلة البلوغ، ودلالات هذه النتيجة أننا وجدنا ضرس العقل، كما أن هناك تآكل في الأسنان تشير إلى أنها اسخدمت في الأكل لفترات طويلة”.
أهمية دراسة القوارض
تشير الأشقر إلى أهمية دراسة القوارض، التي تتمثل في أن القوارض أقرب للبشر في شجرة الأنساب، كما أنها كانت تعيش مع الرئيسيات التي ننتمي لها، لذا يعطينا تتبع الجغرافيا القديمة للقوارض صورة مباشرة عن التنوع الجغرافي للرئيسيات.
إلى جانب أن القوارض أيضًا تمثل حوالي 42 بالمئة من الثدييات على سطح الأرض. ويعكف الفريق البحثي حاليًا على إعداد دراسة أنساب موسعة لمعرفة الأقارب الحقيقيين لهذا القارض، لمعرفة أسباب التقزم بشكل تفصيلي بالمقارنة مع عينات أخرى.
وفي ختام حديثها لموقع “سكاي نيوز عربية”، دعت الأشقر المسؤولين إلى الاهتمام بتوثيق الحفريات، وعرضها في متاحف، وهو الأمر الذي يعود على الدولة بعائد اقتصادي كبير؛ إذ تتوافر في البيئة المصرية عدد كبير من الحفريات الهامة، وهو ما نراه في المتاحف الكبرى التي لا تخلو من الحفريات المصرية.
المصدر: سكاي نيوز عربية
اقرأ أيضاً: أدلة جديدة تعيد كتابة التاريخ.. ظهور نتائج تحليل مومياء قاض مصري
كشفت أدلة جديدة أن المصريين القدماء عرفوا التحنيط منذ حوالي 4000 عاما، أي قبل نحو 1000 مما كان يٌعتقد سابقا، بحسب صحيفة الغارديان.
وتم العثور على الأدلة الجديدة عن طريق تحليل مومياء لأحد القضاة النبلاء في المملكة القديمة يٌدعى “خوي”، التي تم اكتشافها في 2019. ووجد الباحثون أن المومياء أقدم بكثير من جميع المومياوات المصرية التي تم اكتشافها سابقا، مما يثبت أن تقنيات التحنيط كانت متطورة للغاية منذ حوالي 4000 عام.
كان العلماء يعتقدون أن تطور عملية تحنيط الجسد والمواد المستخدمة، بما في ذلك ضمادات الكتان الدقيقة للغاية والصمغ عالي الجودة، لم تتم إلا بعد 1000 عام على نشاة الدولة المصرية القدمية.
وقالت الدكتورة سليمة إكرام، رئيسة قسم علم المصريات بالجامعة الأميركية بالقاهرة والخبيرة البارزة في تاريخ التحنيط: “إذا كانت هذه مومياء من عصر الدولة القديمة، فيجب مراجعة جميع الكتب عن التحنيط وتاريخ الدولة القديمة”.
وأضافت: “هذا من شأنه أن يقلب فهمنا لتطور التحنيط رأساً على عقب. المواد المستخدمة وأصولها وطرق التجارة المرتبطة بها ستؤثر بشكل كبير على فهمنا للمملكة القديمة في مصر”.
وتابعت: “حتى الآن كنا نظن أن التحنيط في عصر الدولة القديمة كان بسيطًا نسبيًا، مع تجفيف أساسي – لم يكن دائمًا ناجحًا – دون إزالة الدماغ، واستئصال عرضي للأعضاء الداخلية. مع إيلاء المزيد من الاهتمام للمظهر الخارجي للمتوفى عن الداخل. كما أن استخدام الصمغ كان محدود للغاية في مومياوات الدولة القديمة المسجلة حتى الآن. هذه المومياء مليئة بالأصماغ والمنسوجات وتعطي انطباعًا مختلفًا تمامًا عن التحنيط. في الواقع، إنها أشبه بالمومياوات الأخرى”.