تعد مقاطعة جينغهاي الواقعة في شمال الصين جنة زراعة الأرز تقريباً. تتميز بموقعها على امتداد ساحل بحر بوهاي، ولديها ما يزيد على نصف أراضي المنطقة، تتكون من تربة مالحة وقلوية، حيث لا توجد إمكانية لدى المحاصيل للبقاء حية. رغم ذلك، في فصل الخريف الماضي، قدمت مقاطعة جينغهاي 247.11 فدان من الأرز.
يكمن سر الحصاد الهائل في توافر سلالات أرز حديثة لديها قدرة على تحمل الملوحة، والتي طوّرها علماء صينيون على أمل توفير الأمن الغذائي المهدد، جرّاء ارتفاع منسوب مياه البحر، وصعود الطلب على الحبوب وتعرض سلاسل التوريد للاضطرابات.
جرت تسميته بـ”أرز ماء البحر” نظراً لأنه ينمو في تربة مالحة على مقربة من البحر، وجرى تخليق السلالات باستخدام تقنية التعبير الجيني لحبوب الأرز البري المنتقاة التي تتسم بأنها أكثر مقاومة للملوحة والقلويات. حققت حقول الاختبار في تيانجين – البلدية التي تتبعها مقاطعة جينغهاي – إنتاجاً بلغ 4.6 طن للفدان الواحد خلال السنة الماضية، وهو ما يفوق متوسط إنتاج أصناف الأرز المعيارية على مستوى البلاد.
توفير الإمدادات الغذائية
يأتي هذا الإنجاز، بينما تفتش الصين عن سبل توفير الإمدادات الغذائية والطاقة على الصعيد المحلي، حيث تترك ظاهرة الاحتباس الحراري والتوترات الجيوسياسية الواردات في وضع أقل من أن يمكن الاعتماد عليها. يوجد لدى البلد خُمس سكان العالم، وهذا العدد الهائل من الأفواه لابد من إطعامه، في ظل وجود أقل من 10% من الأراضي الصالحة للزراعة على كوكب الأرض. في الوقت نفسه، يتصاعد استهلاك الحبوب بطريقة سريعة مع ارتفاع معدل الثراء في البلاد.
قال وان جيلي، مدير في مركز “تشينغداو” للأبحاث والتطوير في وحدة الأرز الملحي القلوي، إن البذور تُعدّ بمثابة “الرقائق الإلكترونية” لقطاع الزراعة، في إشارة إلى الدور الحيوي الذي تلعبه أشباه الموصلات في تطوير التكنولوجيات الحديثة ودورها في استمرار حالة الحرب التجارية الدائرة بين الولايات المتحدة والصين. قال إن أرز مياه البحر من الممكن أن يسهم في تحسين إنتاجية الحبوب في الصين في مواجهة حالة معقدة تماماً، فيما يتصل بالتغير المناخي والأمن الغذائي على مستوى العالم”.
تعكف الصين على دراسة الأرز المقاوم للملوحة منذ فترة الخمسينيات من القرن الماضي على أقل تقدير. بيد أن مصطلح “أرز مياه البحر” بدأ يجذب الانتباه السائد فقط في غضون السنوات الأخيرة، عقب شروع الراحل يوان لونغ بينغ، الذي كان في السابق أكبر علماء مجال الزراعة في البلاد، عملية بحث الفكرة في سنة 2012.
أبو الأرز الهجين
يعتبر يوان، المعروف بـ”أبو الأرز الهجين”، بمثابة بطل قومي لنجاحه في رفع حجم محاصيل الحبوب وإنقاذ ملايين الناس من براثن الجوع بفضل اشتغاله بأصناف الأرز الهجين عالية المحصول في فترة السبعينيات من القرن الماضي. في سنة 2016، وقع اختياره على 6 مواقع في كافة أنحاء البلاد ذات ظروف تربة متنوعة جرى تحويلها إلى حقول اختبار لرزاعة الأرز المقاوم للملوحة. في السنة التالية، أسست الصين مركز الأبحاث في “تشينغداو”، حيث يعمل وان. جرى وضع هدف للمعهد وهو حصاد 30 مليون طن من الأرز من خلال زراعة 16.56 مليون فدان من الأراضي الجرداء.
قال يوان في فيلم وثائقي أُذيع في سنة 2020: ” لدينا قدرة على إطعام 80 مليون شخص إضافي باستخدام الأرز المقاوم للملوحة. صرح لصحيفة محلية في سنة 2018 بأنه: “يتعين على الباحثين في المجال الزراعي مثلنا أن يحملوا على عاتقهم مسؤولية توفير الحماية للأمن الغذائي”.
لقد ترك التغير المناخي المهمة أشد إلحاحاً. ارتفع منسوب المياه الساحلية في الصين بمعدل يفوق سرعة المتوسط العالمي على مدى الأربعين سنة المنقضية، وهو اتجاه مثير للقلق مع اعتماد البلاد الشديد على ساحلها الشرقي الممتد والمنخفض لإنتاج الحبوب. سيتيح نجاح زراعة الأرز المقاوم للملوحة على نطاق واسع للبلاد الاستفادة من أراضي تتسم الملوحة بطريقة أكبر على نحو متزايد في المنطقة.
بحسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي، من الممكن أن تزيد مستويات سطح البحر في كافة أنحاء العالم بما يبلغ 59 سنتينميتر مع حلول نهاية القرن إذا صعدت درجة حرارة الكوكب بمقدار درجتين مئويتين. سيتسع نطاق المحيطات حول الولايات المتحدة في غضون العقود الثلاثة المقبلة بطريقة أسرع مما كان عليه الوضع خلال القرن الماضي، وفقاً لما ورد في تقرير صدر تحت إشراف قيادة الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي خلال الأسبوع الجاري.
قضية استراتيجية كبرى
أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ أثناء اجتماعات أخيرة عديدة بحضور كبار المسؤولين الحكوميين على أن ضمان توريد السلع الأساسية يعد بمثابة قضية استراتيجية كبرى مع الأخذ في الاعتبار المناخ والضغوط الجيوسياسية. قال خلال انعقاد اجتماع للجنة الدائمة للمكتب السياسي في شهر ديسمبر الماضي: “يتعين صناعة طعام الشعب بأيدي الصينين وأن يبقى في أيدي الصينيين”.
يراهن العلماء الصينيون على أن الأرض التي تعتبر غير صالحة للزراعة ذات يوم سيكون من الممكن تحويلها إلى أراضٍ منتجة للحبوب. حوالي 247.11 مليون فدان من الأراضي في البلاد، بما يعادل حجم مصر تقريباً، تحتوى على نسبة مرتفعة من الملوحة والقلوية. في هذه الأثناء، هبطت الأراضي الصالحة للزراعة بنسبة 6% في الفترة من سنة 2009 إلى سنة 2019 جراء عوامل التحضر والتلوث والإفراط في استعمال الأسمدة الزراعية.
على صعيد تحقيق الاستفادة من التربة المالحة، يخفف المزارعون الذين يستخدمون طرقاً تقليدية ملوحة حقولهم بضخ كميات كبيرة من المياه العذبة. ما زالت هذه الطريقة شائعة الاستعمال في بعض المناطق الساحلية. بيد أن هذه المقاربة تحتاج توفير كميات ضخمة من المياه ولا يسفر عنها في الأغلب تحسن في حجم المحصول بما يكفي لتكون ذات جدوى اقتصادية.
تطوير أصناف من الحبوب
قال تشانغ زاوكسين، الباحث بوزارة الزراعة الصينية: “تدرس الصين وسيلة أخرى حالياً، لتطوير أصناف من الحبوب يكون لديها مقدرة على مقاومة ملوحة التربة”. بينما جرت زراعة الأرز بمياه البحر غالباً في حقول تجريبية حتى وقتنا هذا، أوضح تشانغ أنه لديه اعتقاد بأن الزراعة على المستوى التجاري ستنطلق بدعم من الحكومة في وقت قريب.
كشف فريق البحث في “تشينغداو” في شهر أكتوبر الماضي أنه يمكن بلوغ هدف زراعة 16.56 مليون هكتار من الأرز بمياه البحر خلال 10 أعوام. في سنة 2021، جرى تكليف المجموعة البحثية بمساحة 9.884 مليون فدان من الأراضي لزيادة إنتاج الأرز باستخدام مياه البحر.
قال تشانغ: “في حال استطاعت الصين تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأغذية الأساسية بقدر أكبر، فسيعد ذلك أيضاً مساهمة في تحقيق الأمن الغذائي على مستوى العالم”. تابع: “كلما تراجعت واردات الصين، حصلت دول أخرى عديدة المزيد.”
المصدر: بلومبرغ