تكثر الأحاديث عن طبيعة العملات الرقمية وكل ما يتعلق بها، لذلك يصعب انتقاء ما يُهم حقًا. وُضعت خطة حديثًا لإحداث تغيير كبير في قطاع العملة الرقمية فيما يتعلق بكميات الطاقة الهائلة التي تستهلكها عمليات إنتاج هذه العملات.
ويدور الحديث اليوم عن الإثيريوم، ثانية أكبر عملة رقمية في العالم، إذ تهدف الخطط الموضوعة إلى تقليل الانبعاثات الناتجة عن تعدين هذه العملة بنسبة 99%. لا شك أن زيادة شهرة العملات الرقمية في السنوات الأخيرة كان هائلًا.
لكن مع زيادة استخدام هذه العملات، ازدادت الأضرار المناخية أيضًا، إذ تستهلك الحواسيب التي تُتيح عمليات تبادل هذه العملات كميات هائلة من الطاقة.
مثلًا إذا تحدثنا عن أشهر عملة رقمية في العالم وهي البيتكوين، ففي حين تُحاول دول العالم تقليل استهلاك الطاقة، تحتاج عمليات تعدين البيتكوين كميات متزايدة من الطاقة تفوق احتياجات الطاقة لبلد متوسط الحجم مثل الأرجنتين!
إذا نجحت عملية تغيير التقنية المُستخدمة لإنتاج الإثيريوم، ستزيد الضغوط لفعل الشيء ذاته للعملات الرقمية الأخرى، ومنها البيتكوين.
لماذا العملات الرقمية شديدة التلويث للبيئة؟
العملات الرقمية أنظمة تُتيح عمليات التداول والشراء المباشر للأشخاص. على عكس العملات التقليدية، لا تُدار عمليات تداولها من بنك مركزي واحد، إنما توجد شبكة عالمية غير مركزية من الحواسيب فائقة التطور، تُشكل ما يُسمى سلسلة الكُتل «بلوكتشين»، وتُسمى الحواسيب المُستخدمة في تلك العملية «أجهزة التعدين».
يمكن توضيح آلية التداول بالعملة الرقمية بالمثال التالي:
لنفترض أن «أليس» أرادت تحويل عملة مشفرة إلى «بوب». تبدأ أليس عملية التداول بإرسال رسالة إلكترونية فيها تعليمات إلى الشبكة، حيث يُمكن رؤيتها من جميع المستخدمين. توضع تعليمات التعامل بهذا الكم من العملة الرقمية مع بقية التعاملات التي أجريت مؤخرًا، إذ تتجمع كلها ضمن سلسلة كُتل، أو مجموعة من السلاسل.
وتُحوَّل المعلومات الموجودة في سلسلة كُتل التعاملات إلى رموز مُشفرة، ثم تبدأ عملية التعدين لفك الشيفرات لتُضاف تعليمات التداول إلى السلسلة الأساس. بعد فك الشيفرة من قبل أحد أصحاب أجهزة التعدين، يُراجع بقية المُستخدمين الحل المقترح، ويتفقون بالإجماع على قبوله أو رفضه. تُضاف عملية التداول الأخيرة إلى نهاية سلسلة الكُتل، وبذلك تُقبل عملية التحويل التي أجرتها أليس.
يُسمى هذا الإجراء المُتبع في تداول العملات الرقمية «دليل إتمام عملية التعدين». إذ تعتمد عملية فك الشيفرة لسلاسل الكُتل على إجراء الحسابات الرياضية باستخدام حواسيب متخصصة، وتوفير طاقة كهربائية كافية لفك الشيفرة.
يستهلك تعدين البيتكوين وحده نحو 150 تيراواط ساعي من الكهرباء في السنة الواحدة، وينتج عن استهلاك هذه الطاقة 65 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي سنويًا، ما يُعادل كمية الانبعاثات الصادرة من دولة اليونان!
تُشير البحوث إلى أن الانبعاثات الناتجة من تعدين عملة البيتكوين السنة الماضية ستسبب وفاة 15,000 شخص مستقبلًا!
إن طريقة دليل العمل المتبعة تهدر الطاقة عمدًا، لتوضيح ذلك فإن البيانات التي تحملها سلاسل الكُتل عديمة المعنى! إذ تُسجَّل البيانات فقط للإشارة إلى الحسابات الصعبة غير المفهومة التي تُعد أساسًا لتوزيع المزيد من العملات الرقمية على المستخدمين.
يذكر مناصرو العملات الرقمية عدة مبررات لاستهلاك الطاقة الجائر في أثناء عمليات التعدين، كلها غير مقنعة.
يجادل المناصرون بأن عمليات التعدين تستخدم مصادر الطاقة المُتجددة. قد يكون ذلك صحيحًا، لكن الاستمرار باستنزاف مصادر الطاقة المتجددة سيدفع مستخدمي العملات الرقمية إلى الاتجاه إلى مصادر أخرى أكثر تلويثًا للبيئة.
تسعى العملة المنافسة للبيتكوين «الإثيريوم» لتغيير التقنية القائمة. إذ تعهد المسؤولون عن عملة الإثيريوم بإيجاد طرق جديدة لتخفيف استهلاك الطاقة.
التغيير المقترح:
الفكرة الجديدة هي استبدال طريقة «تأكيد صحة العمل» بعملية أخرى هي «تأكيد صحة الحصة».
يعني هذا النموذج أن على المستخدمين تأكيد صحة المعاملات القائمة التي يكون لهم حصة منها، مثلًا حصة من عملات الإثيريوم. في حال الإخلال بمصداقية التعامل، يخسر المُستخدم حصته من العملة.
الأهم هو انتفاء الحاجة إلى حواسيب فائقة التطور للتحقق من عمليات التداول في أي عملة رقمية ، لأن المستخدمين أنفسهم سيقومون بهذه المهمة السهلة. حال تطبيق هذا النموذج، سيؤدي الابتعاد عن استخدام الحواسيب الفائقة التطور إلى تخفيض استهلاك الكهرباء لتعدين عملة الإثيريوم بنسبة 99%.
بعض العملات الأقل شعبية مثل «أدا» التي يجري التداول بها على منصة «كاردانو» أيضًا اعتمدت نموذج «تأكيد صحة الحصة»، لكنها عملات مهمشة لذلك لم يلقَ النموذج الجديد اهتمامًا يُذكر.
عمل الإثيريوم بالنموذج المُقترح طيلة العام الماضي، لكن تجريبيًا فقط. لكن في الشهر الجاري، صرح المشرفون بأن النموذج سيكون جزءًا من المنصة الرئيسية لتداول العملة.
ما النتائج المتوقعة لمثل هذا التغيير؟
قد تفشل تجربة الإثيريوم حال تعارضت أهدافها مع مصالح بعض أصحاب الأسهم، لكن حال نجاح التجربة سيُجبر أصحاب العملات الرقمية الأخرى على اتباع النموذج الجديد، وإلا سيتوقف التعامل بعملاتهم.
بدأ العديد من أصحاب النفوذ بالضغط على العملات الرقمية لتُصبح أقل تلويثًا للبيئة بالفعل. إذ صرح «إيلون ماسك» العام الماضي بأن شركته لن تقبل الدفع بعملة البيتكوين لشراء السيارات الكهربائية، بسبب بصمتها الكربونية البالغة.
وأصدرت السلطات التشريعية لولاية نيويورك بيانًا ينص على حظر عمليات استخدام عملة البيتكوين الرقمية، التي تتطلب طاقةً كربونية. لكن هذا البيان كي يصبح قيد التنفيذ يتطلب توقيع حاكم ولاية نيويورك، وهو ما قد يرفضه.
وفي العام الماضي ناقش مجلس النواب الأوروبي اقتراحًا مفاده وقف نموذج «إثبات صحة العمل» في مجال العملات الرقمية، لكن انتهى الأمر برفض الاقتراح.
مع بدء الشتاء في أوروبا وفي ظل أزمة الطاقة الحالية، ستصبح العملات الرقمية شديدة الاستهلاك للطاقة في ورطة حقيقة.
وعلى هذا، لن ينظر المسؤولون إلى الأعذار التي تُبرر كميات الطاقة المستهلكة لتعدين العملات الرقمية، فدول العالم بأكملها تُحاول التخفيف من انبعاثات الكربون، للحد من أزمة المناخ الطارئة.
كاتب المقال: جون كويغن، أستاذ بكلية الاقتصاد جامعة ماريلاند.
المصدر: ساينس أليرت – ترجمة: ibelieveinsci