تنطلق بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022 اليوم الأحد، حيث تلتقي قطر المضيفة مع الإكوادور. خلال السنوات الـ12 منذ أن مُنحت الدولة الصغيرة الغنية بالغاز حقوق استضافة هذا الحدث، أنفقت 300 مليار دولار في التحضير لانطلاقه.
شهدت مدينة الدوحة تحولاً، إذ باتت تنتشر في العاصمة الآن الملاعب والفنادق الجديدة التي تمّ بناؤها لاستيعاب أكثر من مليون مشجع سيزورون البلاد خلال الشهر المقبل.
تُعتبر بطولة كأس العالم التي تُقام للمرة الأولى في الشرق الأوسط، بمثابة تتويج لطموحات المنطقة الأوسع في عالم الرياضة. استثمرت قطر وجاراتها من الدول الثرية، مليارات الدولارات في أندية كرة القدم الأوروبية الكبرى، وستستضيف المنطقة أربعة سباقات لـ”الفورمولا 1″ العام المقبل، فيما تهدف دورة “ليف غولف” (LIV Golf) المدعومة من السعودية إلى تصدر بطولات لعبة الغولف الاحترافية.
كأي فعالية تقام للمرة الأولى، صاحب مونديال قطر 2022 الكثير من الجدل منذ البداية، إذ كانت هناك مخاوف بشأن سجل قطر في السياسات التي تحد من حقوق المرأة وأفراد “مجتمع الميم”، ومعاملتها للعمال المهاجرين، حتى إن ما تقوله الحكومة القطرية عن استضافة بطولة كأس العالم “محايدة للكربون”، هو أمر مشكوك فيه، فضلاً عن الاضطراب الذي سببه نقل موعد المونديال بعيداً عن خانة التوقيت الصيفي التقليدية، وتغييرات اللحظة الأخيرة التي شهدها الجدول.
أخيراً، لا يزال من المتوقع أن تحقق البطولة عائدات قياسية للمنظمين في الاتحاد الدولي لكرة القدم الـ”فيفا”، وأن تتفوق على ما يقرب من 5.4 مليار دولار حققتها بطولة كأس العالم 2018 في روسيا لصالح الاتحاد الدولي لكرة القدم. شاهد نحو 3.6 مليار شخص نسخة كأس العالم الأخيرة، ومن المنتظر أن يتابع مليارات المشاهدين هذه النسخة.
ملاعب خضراء في الصحراء
تصل البطولة التي تُقام كل أربع سنوات إلى منطقة الشرق الأوسط للمرة الأولى في تاريخها الممتد على مدى 92 عاماً، ما يجعلها أكبر حدث رياضي يُقام في المنطقة على الإطلاق. إنها أيضاً أول حدث عالمي مفتوح للجمهور منذ أن أدت قيود كوفيد-19 إلى منع المشجعين من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في طوكيو، ودورة الألعاب الشتوية في بكين.
على عكس نهائيات كأس العالم السابقة، التي كانت تنتشر فيها الملاعب عادة عبر مدن متعددة، ستُلعب جميع المباريات ضمن مسافة 31 ميلاً من كورنيش الدوحة الرئيسي. وهذا يعني أن تعداد سكان العاصمة سيزداد بوجود أكثر من مليون مشجع -أي ما يقرب من ثلث إجمالي سكان قطر- خلال البطولة التي ستستمر لمدة شهر.
في خروج آخر عن التقاليد، تُعتبر هذه المرة الأولى التي ينظم فيها “فيفا” الحدث في نوفمبر وديسمبر بدلاً من أشهر منتصف العام، لتجنب الصيف الحار في قطر. تسبب ذلك في اضطراب جداول الدوريات الأوروبية، وأثار الخوف بين اللاعبين بسبب قلقهم بشأن الإصابة والإرهاق.
من أجل الجماهير
بحلول منتصف أكتوبر، كان قد تم بيع ما يقرب من 3 ملايين تذكرة- أي جميع المقاعد المتاحة تقريباً. قال “فيفا” إنه إلى جانب المقيمين في قطر، كان مواطنو السعودية والإمارات من بين أكبر المشترين. ومن المنتظر أن يصل مشجعون من الولايات المتحدة، والمكسيك، وبريطانيا، وفرنسا، والأرجنتين، والبرازيل، وألمانيا إلى الدوحة، بينما ستمنع قيود كوفيد الزوار الصينيين.
شمل الإنفاق نحو 45 مليار دولار لبناء “لوسيل”، وهو مشروع ضخم شمال وسط الدوحة، كان لا يزال عبارة عن صحراء في عام 2010. وفقاً لمطوره، سيسكن فيه نحو 200 ألف شخص المصدر: صورة قمر صناعي تابع لـ”ماكسار تكنولوجيز”، عام 2022
تضم المدينة الجديدة مركزاً حضرياً وأرخبيلاً صناعياً، وملعب “لوسيل” الذي ستُقام فيه المباراة النهائية لكأس العالم المصدر: صورة قمر صناعي تابع لـ”ماكسار تكنولوجيز”، عام 2022
شكّلت مساحة قطر الصغيرة تحدياً للمنظمين، الذين لجأوا إلى حلول غير تقليدية لأماكن إقامة الجماهير، بما في ذلك السفن السياحية، والمخيمات في الصحراء، والشقق المفروشة. تتمثل الخطة في توفير 130 ألف غرفة، لكن العديد من الفنادق لم يكتمل إنشاؤها في الوقت المحدد قبل موعد انطلاق البطولة. تثير الشقق في الأحياء النائية أسئلة حول مدى تمتع الجماهير بالتجربة.
كما لجأت قطر إلى جيرانها طلباً للمساعدة، إذ ستسمح نحو 100 رحلة ذهاب وعودة يومية بين الدوحة ومدن الشرق الأوسط الرئيسية الأخرى للزوار، بالبقاء خارج الدولة الخليجية الصغيرة. شهدت دبي بشكل خاص ارتفاعاً في الطلب على الغرف الفندقية، لكونها على بعد 55 دقيقة فقط من قطر، إذ من المتوقع أن تستفيد الإمارة المشهورة سياحياً –التي لديها قواعد لباس أكثر تساهلاً وثقافة مرحبة بالحفلات- أكثر من غيرها.
يقول المنظمون إن المساحة الصغيرة للدولة، ميزة وليست عيباً، إذ سيتيح القرب بين الملاعب وخطوط النقل للجماهير، إمكانية حضور مباريات عدة في يوم واحد. سيتم ربط معظم الملاعب بوسائل النقل العام، بما في ذلك نظام مترو جديد، وأسطول من الحافلات الكهربائية. وعلى الرغم من أن ذلك سيساعد في تقليل الأثر البيئي للبطولة، إلا أنها لن تكون خالية من الكربون.
أموال الغاز
تُستمد ثروة قطر الطائلة بشكل أساسي من صادرات الغاز الطبيعي المسال، وهو نسخة فائقة التبريد من الوقود، تشحنه قطر إلى مشترين آسيويين في الغالب بموجب عقود طويلة الأجل. تتشارك قطر مع جارتها في الخليج العربي، إيران، أحد أكبر حقول الغاز الطبيعي في العالم.
جعل الوقود الأحفوري البلاد واحدة من أغنى دول العالم قياساً على نصيب الفرد من الناتج. يبلغ عدد المواطنين القطريين نحو 350 ألفاً فقط -لم تُقدم أي أرقام رسمية- وتتكون النسبة الأكبر من السكان من المغتربين، وبصورة أساسية من الذين يحملون تأشيرات عمل. وبفضل أسعار النفط المرتفعة –التي يستفيد منها معظم عقود قطر- تتمتع الدولة بعام من الازدهار، حيث من المتوقع أن تحقق فائضاً يصل إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لـ”ستاندرد آند بورز غلوبال ريتينغز”.
في ظل ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي المسال، جنباً إلى جنب مع أزمة الطاقة في أوروبا، أطلقت البلاد مشروعاً تصل تكلفته إلى 50 مليار دولار تقريباً لتوسيع طاقتها بأكثر من 60% قبل نهاية العقد. تتوقع “كابيتال إيكونوميكس” أن يعزز هذا التوسع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 25% بنهاية عام 2027.
أدى نظام المترو الجديد تماماً، وميناء الشحن الحديث، وتوسيع المطار الرئيسي، وبناء مدينة مخطط لها شمال الدوحة، إلى تغيير البلاد. وتقول السلطات إن الكثير من أعمال البناء كانت قيد الدراسة بالفعل، لكن كأس العالم سرّع الجدول الزمني.
لعبة نفوذ
اتهم منتقدون قطر بـ”التبييض الرياضي” للتستر على سوء معاملتها للعمال المهاجرين، والأشخاص الذين يُعرفون بأنهم من “مجتمع الميم”، وأقليات أخرى، كما يقولون. لكن في حين أن المسؤولين القطريين يأملون في أن ينجح الحدث في إرساء سمعة عالمية طيبة للبلاد بين مشجعي كرة القدم، إلا أن الاعتبارات الجيوسياسية قد تكون أكثر أهمية.
تقع قطر بين السعودية والإمارات وإيران في منطقة مضطربة. فالعلاقات في المنطقة حساسة ومتوترة في كثير من الأحيان. في عام 2017، قطعت المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، والبحرين العلاقات الدبلوماسية والتجارية والسفر مع قطر، متهمة إياها بتمويل الإرهابيين -وهي تهمة تنفيها قطر- وبأنها على تقارب كبير مع إيران.
اعتُبرت هذه الخطوة تهديداً لسيادة قطر، ولعب الدبلوماسيون الأميركيون دوراً حاسماً في منع تدهور الوضع. وفقط في أوائل عام 2021، تمت استعادة العلاقات مع تلك الدول، أيضاً بمساعدة الوساطة الأميركية.
يوفر كأس العالم لقطر فرصة لاستعراض نفسها على المسرح العالمي. ووفقاً لبعض المحللين، قد يكون جعل اسم الدولة مشهوراً بمثابة أمر حاسم في درء تهديد مماثل في المستقبل.
يقول فهد المري، الرئيس المشارك لـ”برنامج أبحاث الدول الصغيرة” في جامعة “جورج تاون” في قطر، إنه على الرغم من صغر حجمها، إلا أن تنظيم مثل هذا الحدث يمنح قطر مصداقية دولية.
مخاطر ما بعد المونديال
يأمل المسؤولون القطريون أن تساعد البنية التحتية التي تم تطويرها كجزء من الاستعدادات لكأس العالم، في تعزيز الاقتصاد غير القائم على الطاقة في البلاد، حتى لو لم يكن لديها خطة ثابتة لما يجب فعله بكل هذه الملاعب الجديدة البراقة.
على الرغم من أن الغاز الطبيعي المسال قد يكون سلعة تحظى بطلب كثيف حالياً، إلا أن أوروبا تهدف في النهاية إلى إنهاء اعتمادها على الوقود الأحفوري. يمكن أن يساعد تصوير وسائل الإعلام لقطر على أنها أنيقة وحديثة في جذب السياح والشركات. كما يمكن أن يؤدي تطوير الموانئ والطرق إلى تعزيز التصنيع.
يتوقع معظم الاقتصاديين تباطؤ النشاط التجاري غير المتعلق بالطاقة بعد البطولة، عندما تصبح المباني السكنية والفنادق فارغة من زوار كأس العالم.
من المتوقع أن تدخل آلاف الغرف الفندقية الأخرى -بعضها كان مخطط له لبطولة كأس العالم ولكن لم يكتمل في الوقت المناسب- إلى السوق في عام 2023. وبالإضافة إلى ذلك، هناك آلاف الوحدات السكنية الأخرى.
قالت الحكومة القطرية إنها تتوقع أن يغادر العمال ذوو الدخل المنخفض البلاد مع انتهاء مشاريع البناء، لكن ليس من الواضح عدد المغادرين من الموظفين المكتبيين الذين شاركوا في الاستعدادات لبطولة كرة القدم.
نما عدد سكان قطر بما يقارب 14% في العام المنتهي في 31 أكتوبر، ليسجل مستوى قياسياً بلغ 3 ملايين نسمة. تواجه البلاد خطر الشعور بالفراغ بمجرد عودة المشجعين إلى بلادهم. وتأمل الحكومة في أن يكون انتهاء هوس كأس العالم، إيذاناً بفجر جديد يجلب المزيد من المعرفة القابلة للتطبيق، ويعزز اقتصاد قطاع الخدمات. لكن المسار بين حدث رياضي كبير والمرحلة التالية من النمو الاقتصادي لا يزال غير واضح.
يجعل ذلك عملية الانتقال إلى ما بعد البطولة، أمراً لا يقل أهمية عن الاستعداد لها، إذا كان الاستثمار سيؤتي ثماره في النهاية.
المصدر: بلومبرغ