في قرية “برج نور الحمص” بمحافظة الدقهلية التي تشغل الجزء الشمالي الشرقي من دلتا النيل في مصر، زرع إبراهيم السحيتي هذا العام أربعة فدانات من أرضه ببذور الأرز المقاومة للجفاف، غمر “السحيتي” شعورٌ بالرضا بعد حصوله على إنتاجية مرتفعة وفي وقت أقصر مما كانت تتطلبه عملية الإنتاج في السابق.
تعرَّف “السحيتي” الذي يعيش في قريته التابعة لمركز أجا، على بذور الأرز المقاومة لتغيرات المناخ -أو ما سماه بـ”التقاوي”- بمساعدة معهد بحوث المحاصيل الحقلية بمركز البحوث الزراعية الحكومي، لتوفر له عدة مميزات، أولاها تقصير وقت الدورة الزراعية إلى ما يتراوح بين 120 و125 يومًا، بعدما كان المحصول التقليدي يستغرق من 150 إلى 160 يومًا، كما وفّر ثلث كمية المياه التي كان يستخدمها، مع اقتصاد في العمالة أيضًا.
يلخص “السحيتي” تجربته مع هذه البذور بأن “الفلاح أصبح يزرع بذورًا جافة في أرض جافة من دون عناء، ثم تُروى الأرض بخطوط المياه لينتهي العمل في غضون ساعتين يوميًّا فقط”.
في 2015، أطلقت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) مشروع SAIL بمشاركة وزارة الزراعة المصرية، لمساعدة المزارعين المصريين من أصحاب الحيازات الصغيرة على تعزيز ما يُعرف بالممارسات الذكية مناخيًّا، بتمويل إجمالي يصل إلى 94.6 مليون دولار أمريكي، ويمتد المشروع حتى عام 2023، شجع المشروع المزارعين على تجريب الزراعة المائية بدون تربة- تقنية مبتكرة لتقليل المياه وزيادة الإنتاجية- وعلى استخدام أصناف المحاصيل البديلة، وتحويل أنظمة الري التقليدية إلى ري بالتنقيط أو بالرش، واستخدام معدات للحصاد تعمل بالطاقة الشمسية.
الزراعة الذكية مناخيًّا
تعرف “الفاو” الزراعة الذكية مناخيًّا بأنها نهج لإعداد الإجراءات اللازمة لتحويل النظم الزراعية إلى دعم الأمن الغذائي في ظلّ تغيرات المناخ، ساعيةً إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي زيادة الإنتاجية بشكل مستدام، والتكيُّف مع تغيُّر المناخ والصمود في وجهه، وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري التي تنتجها ممارسات الزراعة.
ويرى البنك الدولي أن نهج الزراعة المراعية للمناخ هو نهج متكامل لإدارة الأراضي الطبيعية التي تتضمن الأراضي الزراعية والثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك ذات الصلة بالأمن الغذائي وتغيُّر المناخ، لذا استهدف 52% من تمويل البنك الدولي للزراعة الممارسات التي تسعى إلى التخفيف من آثار التغيُّرات المناخية والتكيُّف معها.
وفي دراسة حالة أجرتها “الفاو” في عام 2021 في عدد من البلدان حول الزراعة الذكية مناخيًّا، قالت إن الموارد الطبيعية الزراعية في مصر تتعرض لتهديد مستمر؛ بسبب تغيُّر المناخ وتزايُد الضغوط البشرية، إذ سيؤدي ارتفاع مستوى سطح البحر إلى تقليل المساحة المزروعة حول نهر النيل، ومن المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة وتزداد الفجوة بين الموارد المائية المتوافرة والاحتياجات الفعلية، كما أظهرت التوقعات انخفاضًا كبيرًا في إنتاج القمح، في الفترة ما بين عامي “2012 و2040” بنسبة تتراوح من 11 إلى 12%، ومن 26 إلى 47% للأرز، ومن 40 إلى 47 % للذرة.
مبادرة تحسين إنتاجية الأرز
يقول بسيوني زايد، رئيس البحوث في قسم بحوث الأرز بمعهد بحوث المحاصيل الحقلية: إن الهدف من استنباط المحاصيل الجديدة هو الحصول على أصناف “ذكية مناخيًّا”، تتحمل التغيرات البيئية السلبية التي تؤثر على إنتاجية المحصول، مثل ارتفاع درجات الحرارة، وجفاف التربة وملوحتها، ونقص المياه الذي يضطرنا كثيرًا إلى الري بمياه الصرف الزراعي والمياه المعالَجة على الرغم من احتوائها على مستويات ملوحة عالية.
يرأس “زايد” الفريق البحثي في مبادرة “تحسين إنتاجية الأرز تحت ظروف التغيرات المناخية والملوحة”، الممولة من أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا المصرية.
أجرى “زايد” برفقة زملائه أبحاثًا لاستنباط أصناف جديدة قادرة على تحمُّل الظروف المناخية الثلاثة، ثم بدأوا في زراعتها في بعض الحقول في مناطق تعاني من آثار التغيُّرات المناخية في محافظات كفر الشيخ وبورسعيد وغيرها، كما استخدموا بالتوازي من أجل توفير المياه طرقًا جديدةً للزراعة تسمى بـ”الزراعة على خطوط أو مصاطب”، وكانت النتيجة جيدة.
ولمزيد من الاختبارات، لجأ الباحثون إلى بعض المناطق في مدينة الفرافرة بالوادي الجديد، لتقييم الأصناف الجديدة في ظل اجتماع التأثيرات الثلاثة الناتجة عن تغيُّر المناخ في هذه التربة، وهي الحرارة المرتفعة والجفاف والملوحة والري على فترات متباعدة، كما جربوا زراعة الأرز بالتنقيط، وكانت النتائج المبدئية مبشرة؛ إذ أنتج الفدان ما يتراوح بين 2 إلى 2.9 طن من الأرز، واستهلك من 1800 إلى 2000 متر مكعب من المياه فقط، ما اعتبره “زايد” إنجازًا، نظرًا إلى أنه من المعروف أن زراعة الأرز تجري من خلال الري بالغمر، وبالتالي تتطلب استخدام كميات كبيرة من الماء، ما دعاهم إلى اتخاذ قرار باستكمال تجاربهم.
حتى الآن أنتجت المبادرة عدة أصناف تتميز بقدرتها على التكيف مع التغيرات المناخية، لكن أكثرها تحملًا هو “الجيزة 179″، و”سخا سوبر 300″، و”سلالة 9399”.
يضيف “زايد” في حديثه لـ”للعلم”: “نعمل أيضًا على إنتاج أصناف زراعية قليلة الاحتياج إلى الأسمدة النيتروجينية التي تتسبب بدورها في إنتاج غاز أكسيد النيتروز، أحد غازات الدفيئة، كما استخدمنا أحد المركبات العضوية المستخلصة من نبات المورينجا كسماد لتقليل الآثار الضارة للمواد الكيماوية، وكانت النتائج جيدة”.
وفي الوقت الذي يشعر فيه الفلاحون بالقلق من حدوث تغيير في المحاصيل المزروعة والطرق التقليدية التي اعتادوا عليها، مواصلين التفكير -في الوقت ذاته- في احتمالات التكلفة الإضافية أو الخسارة، يعمل المركز على تعريفهم بالأصناف الجديدة، من خلال زراعتها بـ”حقول إرشادية” ومقارنة إنتاجية الأصناف القديمة بالجديدة، وإقامة الندوات التعريفية في أيام الحصاد، ودعوة المزارعين والمرشدين الزراعيين إلى تقييم جودة المحصول ومميزاته، إضافةً إلى استخدام قنوات الإعلام الزراعي في تعزيز نشر هذا التوجه.
من جانبه، يشجعهم المركز على استخدام الأصناف الجديدة؛ لأنها ستوفر لهم الوقت والمال والعمالة، وتضمن لهم الإنتاجية المرتفعة، كما يشرح لهم كيف تسهم الممارسات الذكية في تخفيف مساهمة القطاع الزراعي في تغيرات المناخ؛ لأنها تقلل انبعاثات غاز الميثان من حقول الأرز، كما تتميز زراعة الأصناف عالية الإنتاجية بقدرة أعلى على عملية البناء الضوئي التي تمتص مزيدًا من غاز ثاني أكسيد الكربون.
قطاع الزراعة وانبعاثات الدفيئة
في مصر، يحتل قطاع الزراعة المركز الثاني من حيث إنتاج غازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 14.9%، في حين يحتل قطاع الطاقة المركز الأول بنسبة 64.5%، يليهم قطاع العمليات الصناعية ثم قطاع المخلفات، وفقًا لتقرير مصر لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ في 2018، وهي الإحصائية الأحدث حتى الآن.
وعالميًّا، أسهمت الزراعة واستخدامات الأراضي في الفترة بين عامي 2007 و2016 بنسبة 23% في إنتاج غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان والنيتروز، وفقًا لتقرير صادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.
تنتج الزراعة في مصر هذه النسبة من الانبعاثات من خلال عمليات “التخمر المعوي” ومعالجة الروث الحيواني، وزراعة الأرز بالغمر، وإدارة التربة الزراعية، وحرق المخلفات الزراعية في الحقول.
ملف “الزراعة الذكية مناخيًّا” كان محل اهتمام مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ هذا العام، إذ ناقشت إحدى جلساته في الثاني من نوفمبر الحالي قضية “الأمن الغذائي والتحول إلى الطرق المبتكرة لإنتاج الغذاء”.
قال بينجامين فرانكلين، أحد المتحدثين في الجلسة، مزارع كاكاو ونائب رئيس مجلس إدارة منظمة التجارة العادلة في أفريقيا، وهي مؤسسة غير ربحية تدعم المزارعين: إن هناك تحديات تواجه التحول إلى الزراعة الذكية مناخيًّا في أفريقيا، وهي الحاجة أولًا إلى نشر التوعية بها بين المزارعين لفهم المخاطر المرتبطة بتغير المناخ، مضيفًا في تصريحات لـ”للعلم” أنه من المهم ضمان حصول المزارعين على أجور عادلة ومستوى معيشي جيد؛ لأن السوق الزراعي ليس عادلًا في تحمُّل تكاليف أزمة المناخ، داعيًا إلى استهداف التمويل المناخي توسيع نطاق الحلول التي تساعد المزارعين على تعلُّم المرونة في مواجهة تغيُّرات المناخ.
وفقًا للمنظمة، فإن 2% من تمويل المناخ فقط يذهب إلى صغار المزارعين في البلدان منخفضة الدخل، ومع ذلك، فإن 80 في المئة من غذاء العالم يأتي من 500 مليون مزرعة عائلية، لذا لا تقتصر مطالبات المؤسسة على التحول إلى الزراعة الذكية فقط، بل اتخاذ إجراءات مناخية وبيئية واسعة تحقق عدالةً اقتصاديةً واجتماعيةً للمزارعين، ليحصلوا على نسبتهم العادلة من وعود صناع السياسات باستثمار الالتزامات السنوية البالغة 100 مليار دولار المحددة سابقًا في مؤتمر باريس.
مشروع “سكالا”
وبالتوازي مع مشروع SAIL وقعت مصر -ممثلة في وزارة الزراعة- منذ عدة أشهر اتفاقًا لمشروع “سكالا” مع “الفاو” وعدة جهات شريكة، يستهدف تأثير تغيرات المناخ على المحاصيل الزراعية، ومحاولة تعميم بعض الممارسات الذكية مناخيًّا في 12 دولة، من بينها مصر.
فاطمة الزهراء عبد الله، خبيرة التكيُّف المناخي بالفاو وعضو المشروع، تقول: إن الهدف هو دعم مصر في ترجمة الاحتياجات الزراعية ضمن خطة التكيُّف الوطنية مع تغيُّرات المناخ، لذا سيساعد المشروع على تعميم الأساليب الذكية مناخيًّا، وتدريب القطاع الخاص على التحوُّل من الأساليب الزراعية القديمة ليُسهم مع القطاع العام في التكيُّف مع المناخ.
وتضيف في تصريحات لـ”للعلم”: “التغيرات المناخية تؤثر بعدة طرق، تؤدي قلة المطر إلى نقص توافر المياه، ويؤثر ارتفاع درجات الحرارة على المحاصيل مباشرة، كما يزيد من نمو الآفات وينشر أمراض النبات، على سبيل المثال الحشرات الزراعية لها طور تكاثر مرةً واحدةً في السنة، ومع زيادة درجات الحرارة أصبحت تتكاثر عدة مرات، وهو ما لم يكن يحدث من قبل.. العالم ليس مستعدًّا لهذا الزحف من الحشرات”.
كما يتسبب زحف مياه البحر في ملوحة الأراضي الزراعية، خاصةً أراضي الدلتا؛ لأنها منخفضة وهشة، وبالتالي تصبح غير قادرة على إنتاج المحاصيل بالكفاءة نفسها، كما ينتشر الملح أيضًا في خزانات المياه الجوفية ولا يمكن الاعتماد عليها في الزراعة، لذا وفقًا لفاطمة، طورت مصر بذورًا قادرةً على تحمُّل نسبة ملوحة أعلى، وبذور أخرى مقاوِمة للآفات، كما بدأت تستخدم الري الحقلي بديلًا للري بالغمر.
في الوقت ذاته، رأت أن لـ”تذبذب المناخ” -أي عدم ثبات الدرجة القصوى والدنيا لدرجة الحرارة خلال اليوم الواحد- أثرًا سلبيًّا قويًّا في تغير المناخ أيضًا، ما يؤثر على بعض المحاصيل التي تحتاج إلى ظروف مناخية معينة، فتسقط الزهور قبل أن تثمر، وهذا ما دمر محصول المانجو والزيتون في أكثر من عام سابق.
وكانت دراسة مصرية عن تأثير تغيرات المناخ على الأمن الغذائي، أعدها الباحث سرحان سليمان من مركز البحوث الزراعية في مصر، ونشرت في المجلة المصرية للاقتصاد الزراعي في عام 2019، قد توقعت أن تعاني بعض المحاصيل الزراعية من فجوة بين مدى توافرها ومعدلات استهلاكها بحلول عام 2050 في ظل التأثيرات المتوقعة لتغيرات المناخ على الإنتاجية الفدانية، ووفقًا لإستراتيجية وزارة الزراعة للمساحات المزروعة في تلك الفترة.
وجاءت توقعات الدراسة للفجوة الغذائية بحلول عام 2050، بمقدار 19 مليون طن من القمح، ونحو 117.9 ألف طن من الشعير، ونحو 15.35 مليون طن من الذرة الشامية، ونحو 271.2 ألف طن من الذرة الرفيعة، و2.29 مليون طن من فول الصويا.
ويقول الباحث في تصريحات لـ”للعلم”: إن الفجوة الغذائية وزيادة الاستهلاك يجعلان من الصعب الآن الاعتماد على الزراعة العضوية بوصفها إحدى ممارسات الزراعة الذكية؛ لأننا بهذا الشكل سنحصل على إنتاج أقل بتكلفة أعلى للمستهلك، ولأن استخدام المبيدات والأسمدة يزيد من إنتاجية المحصول، ولن يتوقف الناس كثيرًا عند الجودة إذا لم يناسبهم السعر.
محمد فهيم، رئيس مركز تغيُّر المناخ الزراعي، يرى أن الزراعة الذكية مناخيًّا تشمل كل الممارسات الزراعية التي تراعي علاقة المناخ بالنبات، ومنها الممارسات البسيطة التي تعتمد على معرفة حالة الطقس.
“يزوّد المركز الفلاحين ببعض التوصيات الذكية مناخيًّا، على سبيل المثال إذا كان هناك توقع بزيادة كمية الأمطار خلال أيام معدودة، فالمطلوب هنا التوقف عن الري، وصرف المياه من أسفل النباتات حتى لا تتشبع التربة وتصاب بالاختناق، وإذا كانت هناك رياح محمَّلة بالأتربة في منطقة تزرع البصل مثلًا، فيمكن رش النباتات كوقاية؛ لأن الأتربة تصنع جروحًا دقيقةً في النبات وتكون مدخلًا لإصابتها بالأمراض، وبالتالي نتكلف مبيدات أقل ونحمي النباتات”، ويضيف في تصريحاته لـ”للعلم”: “هنا نسمي هذه الممارسات ذكية مناخيًّا؛ لأنها استعدت مسبقًا ولم تنتظر حدوث المشكلة، وفي الوقت ذاته هي ممارسات طبيعية يمارسها الفلاح عادةً ولا تمثل تكلفةً إضافية، نفعل ذلك منذ عشرين سنة، لكننا صنفناها وغيرها من الممارسات تحت هذا المصطلح حديثًا”.
يرى “فهيم” أن المحاصيل الحقلية المستنبطة مؤخرًا مثل القمح والشعير والذرة والقطن والأرز أصبحت موجهةً بشكل أساسي إلى التكيّف المناخي، وإضافةً إلى توفيرها للوقت والمياه، فهي أحيانًا تتيح للنبات أن تمر مراحله الحرجة في الإخصاب والنمو بعيدًا عن ارتفاع درجات الحرارة، على سبيل المثال قديمًا كان القمح يظل مزروعًا في شهر يونيو ويمر في هذا التوقيت بمرحلة في النمو تسمى “الطور العجيني”، لذا مع ارتفاع الحرارة يتأثر بشدة وتقل إنتاجيته، لكن الآن يمكن تلافي المشكلة.
المصدر: منصة للعلم