شكّل التدخل الأميركي في العراق عام 2003 عقدة لدى السياسيين الأميركيين، تُتخذ ذريعة لعدم تدخل الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، من جديد، بحسب رأي أغلب مراكز الدراسات الاستراتيجية. الأمر ذاته ينطبق على عدم موافقة البرلمان التركي على المشاركة في قوات التحالف الدولي في العراق، الذي شكّل عقدة لدى السياسيين الأتراك. فذلك التدخل انتهى بنفوذ إيراني كبير، أدى إلى خلل التوازن بين القوتين الإقليميتين لصالح إيران، وفشلت المحاولات التركية كلها لتعويض تلك الخسارة.
لعل هذا الأمر دفع بتركيا لاتخاذ موقف "سياسي" حاسم من النظام السوري خشية أن تكون سوريا عراقاً ثانياً، وتميل التوازنات الاستراتيجية لصالح إيران بشكل نهائي.
ولكن التدخل الإيراني في سوريا بغض طرف أميركي تطور لاحقاً ليكون بمباركة وتحالف مع أميركا، ما أضعفَ الموقف التركي كثيراً، وكبّل صناع القرار في هذا البلد، وهذا ما ضيّق الخيارات أمامهم.
ضاقت الخيارات التركية أكثر إثر انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر، والخلاف السعودي التركي تجاهه، وانعكس هذا الخلاف على المعارضة المسلحة السورية، إذا وقعت أكبر خسائرها في تلك الفترة. وبقي الخلاف التركي-السعودي عائقاً أمام تقديم دعم جدي للمعارضة السورية حتى 23 كانون الثاني/يناير 2015، حين توفي الملك عبدالله، وتسلم الملك سليمان الحكم في السعودية. وليست وفاة الملك وحدها ما غيّر السياسة السعودية التركية، بل الانقلاب الحوثي بدعم إيراني مباشر في اليمن جعل المملكة العربية السعودية تعيد حساباتها. وقد حققت المعارضة السورية المسلحة أغلب إنجازاتها الكبرى بعد ذلك التقارب في الشهور الأخيرة.
استعادت تركيا في هذه الفترة شيئاً من فاعليتها، وساد جو من التفاؤل في الأوساط المعارضة للنظام السوري. ولكن ما إن تنفست الحكومة التركية قليلاً في هذه القضية، حتى دخل عامل حزب "العمال الكردستاني" ليشغلها، ويكبّل تدخلها إلى حدٍ كبير. ولكن الجو العام، وسير المعارك أعادا للحكومة التركية شيئاً من توازنها، وبدأت مرحلة من الانسجام بين السياسيين والعسكر في تركيا. وقبل أن تظهر أي نتائج حقيقة على الأرض السورية، دخلت روسيا على خط الصراع بشكل مباشر.
من الواضح أن التدخل الروسي المباشر في سوريا فاجأ الجميع، ولعل تركيا أكثر الدول التي فوجئت به، إذ بعدما كانت القضية السورية متروكة للدول الإقليمية، ولاعبوها الأساسيون إيران من جهة والسعودية وتركيا وقطر من جهة أخرى، جاء التدخل الروسي لا ليخرب الموازين العسكرية فقط، بل ليعطي القضية بعداً جديداً أكثر تعقيداً.
ترتبط تركيا مع روسيا بعلاقات غاية بالتعقيد. فشبه جزيرة القرم على سبيل المثال منطقة تضم نسبة 35 في المئة من ذوي الأصول التركية. وكان هناك اختلاف واضح بين روسيا وتركيا في القضية الأوكرانية، لأن الأتراك فيها أكثر من الروس. ولكن على الصعيد الاقتصادي تعتبر تركيا واحداً من أكبر الشركاء الاقتصاديين لروسيا، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بينهما 32.7 مليار دولار وفق معطيات 2014، وهناك مؤشرات على زيادة هذا الرقم في النصف الأول من العام الحالي. وبالمقارنة مع حجم التبادل التجاري بين تركيا والاتحاد الأوروبي (حتى النصف الأول من 2015) الذي بلغ 71.2 مليار يورو، يظهر بوضوح مدى التداخل في العلاقات بين البلدين. ومن جهة أخرى هناك مشروعات عملاقة قيد الدراسة وأخرى قيد التحضير والإنشاء لجر الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا، وهذا ما يمكن أن يرفع الأرقام كثيراً، ما يزيد الوضع حرجاً.
في فترة التقارب السعودي-التركي كانت الطائرات الحربية التركية تدخل الأجواء السورية، وتقصف قواعد "داعش" في إطار التحالف الدولي، وحتى إنها نفّذت بعض العمليات دون إعلام التحالف الدولي، وتحلق هذه طائرات على طول الحدود التركية السورية دون اعتراض من رادارات الدفاع الجوي التابع للنظام. ولكن الجديد بحسب قيادة الأركان التركية في تصريح رسمي لها، أن رادارات الدفاع الجوي ورادارات الطيران (التابعة للنظام) تحرشت بالطائرات التركية وهي تقوم بطلعاتها على الحدود بين البلدين بتاريخ 3 تشرين أول/أوكتوبر 2015. وهذا التحرش لم يكن ليحدث قبل الدخول الروسي. من جهة أخرى فقد قصفت الطائرات الروسية منطقة قريبة جداً من الحدود التركية قيل إنها مخيم للاجئين. كما قصفت قرى تركمانية حدودية شمالي اللاذقية، ومواقع لمقاتلين تركمان، دربتهم وسلحتهم تركيا، وهم جزء من الجيش الحر.
التصعيد الروسي ضد تركيا بدأ فعلياً في اليوم الثاني للتدخل في سوريا، وهو مرشح للتصاعد.
على الرغم من اعتبار ثاني أكبر الأحزاب التركية؛ حزب "الشعب الجمهوري" في تركيا حليفاً للنظام السوري، فإن تثبيت نظام الأسد في سوريا سيشكل خطراً استراتيجياً على تركيا الدولة، وليس على حزب "العدالة والتنمية" فقط انطلاقاً من العقدة العراقية، وسيطرة إيران على المنطقة.
أمام تركيا استحقاق انتخابي لعله الأهم منذ 2002، فحزب "العدالة والتنمية" بحاجة الى خمس نقاط على الأقل ليشكِّل حكومة وحده من جديد، ولابد أن يكون حذراً إزاء أي تصريح أو حركة يمكن أن تؤثر على أصوات ناخبيه، لذلك فالموقف العام اليوم هو الصمت.
ثمة صمت مريب من طرف الحكومة التركية إزاء التدخل الروسي العسكري في سوريا. وبالطبع فإن الشعور بالقلق، أو الاحتجاج الرسمي على هذا التدخل في إطار الأعراف الديبلوماسية المعمول بها، لا يمكن اعتبارها خرقاً للصمت. حتى أن الصحف التركية أبرزت أن أول الأهداف التي ضربتها الطائرات الروسية بعد الاحتجاج التركي لدى الخارجية الروسية على التدخل في سوريا، كان القرى التركمانية شمال اللاذقية، فهل سيستمر الصمت؟
الوضع التركي الآن في أصعب مراحله، فتركيا لم تخسر كثيراً من حلفائها في القضية السورية فحسب، بل دخلت القوات العسكرية الروسية فعلياً في الصراع السوري إلى جانب الطرف المقابل.
ثمة دعوات كثيرة للحكومة التركية بتغيير موقفها من النظام السوري، وهذه الدعوات منها داخلي ومنها خارجي. داخلياً هناك أحزاب، وجمعيات "طائفية" تضغط باتجاه تغيير موقف تركيا ليكون إلى جانب الأسد، وخارجياً قادت الولايات المتحدة حملة الضغوط على تركيا من أجل تغيير موقفها من النظام السوري وحذفه من أولوياتها، وتمكنت تركيا من الصمود أمام تلك الضغوط حتى الآن، فهل الاستمرار متاح؟
بقدر ما أن إيران مضطرة للانتصار في سوريا، بقدر ما أن السعودية وتركيا مضطرتان للانتصار أيضاً، فهذه قضية استراتيجية بالنسبة إلى البلدين. لقد تمكنت إيران من الحصول على غطاء دولي بالتدخل في سوريا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا، بينما لم تتمكن تركيا من انتزاع غطاء كهذا، وبالطبع فإن التدخل الروسي يحسب استراتيجياً لصالح إيران.
لا يمكن لتركيا ألا تتدخل في القضية السورية، ولا يمكن لها أن تتدخل أيضاً نتيجة تعقيدات العلاقات الدولية. كيف الخروج من المأزق إذاً؟ إحداث فرق من خلال تسليح المعارضة السورية المسلحة، ليس أمنية أو طلباً، إنه خيار وحيد كما تبدو الأمور...