"إنْ صمدنا في وجه العالم وقارعنا جيوشه جميعاً بقدراتنا وانتصرنا فلا عجب، فهو وعد الله لنا"، بهذه اللغة العاطفية الدينية، توجه زعيم "الدولة الإسلامية" أبو بكر البغدادي، إلى مقاتليه ومناصريه والمتعاطفين معه، في خطبته الأخيرة نهاية العام 2015. وتابع البغدادي محاولاً شحذ الهمم، والمعنويات المنهارة: "وإن أصابنا القتل وكثرت بنا الجراح وأصابتنا النوائب، وعظمت المصائب فلا عجب أيضاً وهو وعد الله"، ولا يخفي ذلك محاولة البغدادي إضفاء صفة القداسة الدينية على النصر والهزيمة على حد سواء.
ولم ينتهِ العام 2015 إلا بظهور بوادر تلاشي "دولة الخلافة" وتصدعها، فتحول التمدد إلى تآكل وهو ما رسمته بوضوح الخريطة العسكرية. فقد خسر التنظيم مؤخراً الرمادي عاصمة الأنبار في العراق، حيث الثقل الاستراتيجي لتنظيم "الدولة". وأعلن الجيش العراقي تحرير الرمادي التي تبعد قرابة 100 كيلومتر عن بغداد، في 28 كانون الأول/ديسمبر، بعدما سيطر عليها التنظيم منذ 17 أيار/مايو. وخسارة الرمادي مؤلمة لما تمثله من خزان بشري للتنظيم، ولم تلق دعوات البغدادي واعتذاره لأهلها صدى يذكر.
أما سنجار فمثلت خسارتها ضربة موجعة أيضاً، فقد قطعت قوات "البشمركة" بالسيطرة عليها في 13 تشرين الثاني/نوفمبر، شرياناً حيوياً بين الموصل في العراق والرقة في سوريا. ولا تغيب هزيمة التنظيم في تكريت، ذات البعد الرمزي له، عن مشهد العام 2015. فخروج التنظيم من المدينة في آذار/مارس، بعد سيطرة قاربت عشرة أشهر. وقد سبقت سيطرة القوات العراقية وقوات "الحشد الشعبي" الشيعي على المدينة، موجة نزوح لأهلها السنة. ومثلت مدينة بيجي ثقباً أسود للتنظيم، فقد اتصفت معاركها بالكر والفر، وحرص كل طرف على الاستفادة من النفط فيها، قبل أن ييأس التنظيم مؤخراً من السيطرة عليها.
فعلياً لم يشهد العام 2015 أي نصرٍ عسكري يذكر للتنظيم في العراق. وينسحب الأمر ذاته على الساحة السورية، إذ خسر التنظيم مناطق مهمة في ريف الحسكة في رأس العين وتل حميس، أمام تقدم "وحدات حماية الشعب" الكردية. لكنَّ الضربة الموجعة تلقاها التنظيم في مدينة عين العرب "كوباني" في ريف حلب الشرقي، التي أُخرج منها في 26 كانون الثاني/يناير 2015، مهزوماً، بعد معركة كسر عظم استمرت قرابة أربعة شهور. وخسر التنظيم في كوباني قرابة ألفي مقاتل، وقسم لا بأس به منهم، من قوات النخبة.
وشكلت خسارة عين العرب نقطة مفصلية للأحداث العسكرية في سوريا، إذ تقهقر التنظيم بشكل دراماتيكي أمام "وحدات حماية الشعب" الكردية، المدعومة من طيران "التحالف الدولي". وسيطرت القوات الكردية على مدن ذات غالبية عربية كمدينة صرين في ريف حلب الشرقي، ومدينة تل أبيض في ريف الرقة الغربي على الحدود مع تركيا في 16 حزيران/يونيو. وتابع التنظيم تقهقره إذ خسر منذ أيام سد تشرين في ريف حلب الشرقي، وعدداً من القرى أمام "قوات سوريا الديموقراطية" التي باتت بالقرب من مدينة منبج في ريف حلب، العاصمة الحقيقية للتنظيم في سوريا.
وعدا عن التقهقر، اقتصرت أعمال التنظيم على عمليات عسكرية محدودة، اعتمدت على المفخخات، فهاجمت قواته عين العرب منذ أشهر بالمفخخات والانغماسيين، وهاجمت مؤخراً "اللواء 93" قرب عين عيسى ومدينة تل أبيض في ريف الرقة.
وأحرز التنظيم تقدماً على الثوار في ريف حلب الشمالي، وسيطر في الصيف، على مدينة صوران وعدد من القرى المجاورة، بالإضافة إلى "مدرسة المشاة" وعدد من القرى المجاورة، ولكنه فشل في السيطرة على مارع رغم استهدافها بأكثر من عشرين مفخخة وضربها بالكيماوي، وخسر عدداً كبيراً من مقاتليه في محاولات الاقتحام المتكررة.
وعُدَّتْ سيطرته على مدينة تدمر في ريف حمص، في 21 أيار/مايو، الانتصار الأبرز للتنظيم في الساحة السورية، رغم الاتهامات والشكوك التي أُثيرت حول كيفية السيطرة، والتوطؤ مع قوات النظام. وتبع تلك السيطرة تمدد التنظيم شرقي حمص، إذ سيطر على مدن مهمة كالقريتين ومهين، قبل أن تستعيد قوات النظام السيطرة على مهين بمساعدة الطيران الروسي، منذ أيام بعد معارك كر وفر. ويذوق أهالي تدمر الموت يومياً، مع منع التنظيم لهم من الخروج، وتعرضهم لقصف روسي عنيف.
لكنّ التنظيم تعرض لهزيمة قاسية أمام قوات النظام في ريف حلب الشرقي، بعدما باتت على بعد 18 كيلومتراً من مدينة الباب، عقب فكّها الحصار عن مطار كويرس، وسيطرتها على المناطق الممتدة بين السفيرة والمطار. ما جعل دير حافر تتحول لمدينة أشباح نتيجة استهدافها بالطيران والمدفعية لقربها من مطار كويرس.
ويلاحظ المتتبع أنَّ خسارة التنظيم لا تكمن حقيقة في المدن والمساحات الجغرافية، إنما تتعداها إلى الحاضنة الشعبية الناقمة على ممارساته. فالأهالي رحبوا بداية بالتنظيم، للتخلص من الممارسات الطائفية للحكومة في بغداد، ولرفضها الاستجابة للمطالب الشعبية، لكنهم وجدوا أنفسهم "أمام سرطان بعدما تخلصنا من الفالج" كما يقول أحدهم. ويسري الأمر ذاته على كل مناطق سيطرة التنظيم التي شهدت موجات نزوح كبيرة، ما دفعه لإصدار قرار بمنع الهجرة من "أرض الخلافة" خشية أن تصبح بلا رعية. وهذا ما يفسر دعوة البغدادي في خطابه الأخير للنفير والهجرة لـ"دولة الخلافة" بقوله: "فانفروا إلى حربكم أيها المسلمون إلى كل مكان فهي واجبة على كل مسلم مكلف، ومن يتخلف أو يفر يغضب الله عزَّ وجل عليه، ويعذبه عذاباً أليماً"، فلا يحل لأي مسلم مغادرة أرض الخلافة، وآثم من يفعل ذلك وفق فهم عناصر "الدولة".
وكشف تسجيل البغدادي الصوتي، بشكل واضح حالة الضعف التي يعانيها التنظيم، رغم محاولة زعيمه الإنكار. فظهور البغدادي عبر تسجيل صوتي، لا يزيل الشكوك حول إصابته، كما يعبر عن حالة الخوف والحذر؛ إذ شهد عام 2015 عمليات نوعية للتحالف أدت إلى تصفية قيادات رفيعة في صفوف التنظيم، كمقتل القيادي الثاني الحاج معتز، ومسؤول النفط أبو سياف وأسر زوجته، ومقتل المسؤول العسكري أبو أحمد الأنباري.
وما يدل على قرب انهيار التنظيم، وفق مراقبين، هو التحول من سلوك الدولة التي تحاول التمدد، إلى سلوك العصابات والتنظيمات المأزومة. وذلك من خلال عمليات سوسة وحافلة الحرس الرئاسي في تونس وعملية باريس والضاحية الجنوبية في بيروت، عدا عن مهاجمة دور العبادة في السعودية والكويت.
وعبّر البغدادي عن هذا التأزم بوضوح: "إننا نستنفر كل مسلم في كل مكان". وبدا أنَّ "الخلافة" التي بشر بها البغدادي، صيف عام 2014، أخذت بالأفول في العام 2015، وتحول البغدادي من "خليفة للمسلمين" إلى زعيم متطرف، يوجه أتباعه والمؤمنين بفكره للانتقام: "إننا نستنفر كل مسلم في كل مكان للهجرة إلى الدولة الإسلامية، أو القتال في مكانه حيث كان". وبدت متاجرته بقضية فلسطين، كشأن كل الأنظمة العربية الديكتاتورية، عندما قال: "ما نسينا فلسطين لحظة واحدة، وبإذن الله لن ننساها"، وسار على سلف من سبقه بالوعود المعسولة: "قريباً، قريباً بإذن الله ستسمعون دبيب المجاهدين، وتحاصركم طلائعهم في يومٍ ترونه بعيداً، ونراه قريباً".