على مدى سنوات طويلة كانت الوحدة أمنية وحلما يراود معظم الشعوب العربية، حتى كادت أن تتحقق أولى خطوات ذلك الحلم الكبير بتوحد 3 دول عربية كبرى، مصر وسوريا والعراق.
ففي 17 أبريل/نيسان 1963، أعلنت الدول الثلاث اتفاق الوحدة الشاملة بينهم، حيث وقّع الاتفاقية من العراق رئيسه أحمد حسن البكر، ومن سوريا الرئيس لؤي الأتاسي، ومن مصر الرئيس جمال عبد الناصر، ونزلت الجماهير العربية آنذاك إلى الشوارع ابتهاجا بهذا الاتفاق وتأييدا له، إلا أن الفرحة لم تكتمل، إذ انهار الاتفاق الثلاثي بعد أقل من 100 يوم على إعلانه.
ظروف الوحدة
تعددت الأسباب التي أدت إلى قيام الوحدة الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا، حيث سعت هذه البلدان للوحدة وتحقيق الأمن والاستقرار، وسعى حزب البعث إلى زيادة شعبيته عن طريق شعارات الوحدة، حسب أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر البروفيسور الدكتور سعد نصيف جاسم الجميلي.
ويبيّن -في حديثه للجزيرة نت- أن حزب البعث سارع بعد أسبوعين من وصوله للسلطة بإرسال وفد رفيع المقام إلى القاهرة، لكي يشارك في الاحتفال بعيد الوحدة في 22 فبراير/شباط 1963، وبعد أسبوعين آخرين فاجأت العناصر الوحدوية في الجيش السوري الجميع، بالقيام بثورة أنهت حكم الانفصاليين الذين فككوا الوحدة المصرية السورية، ليعلنوا أنهم يسعون إلى تحقيق الوحدة العربية، وتندفع الجماهير السورية إلى الشوارع في تظاهرات عارمة تطالب بإعادة الأوضاع في سوريا إلى ما كانت عليه.
ويضيف الجميلي أنه -بعد أقل من أسبوع على قيام الثورة السورية- وصل إلى القاهرة وفدان، أحدهما عراقي والآخر سوري، ليعقدا مع الجانب المصري برئاسة الرئيس عبد الناصر سلسلة من الاجتماعات المتلاحقة والمطولة، تدور حول كيفية تحقيق مطلب الجماهير العربية في البلدان الثلاثة بالإسراع في إقامة الوحدة بينها، واستغرقت شهرا كاملا، عقدت الوفود خلاله 19 اجتماعا.
إعلان الوحدة
جاء هذا المشروع الوحدوي الطموح بعد أقل من عامين على انهيار الوحدة المصرية السورية التي تشكلت عام 1958 وانهارت عام 1961، حسب الباحث المتخصص في تاريخ العرب المعاصر الأستاذ الدكتور عمار فاضل حمزة.
وفي حديثه للجزيرة نت، لا يستبعد حمزة وجود أيد خفية مكنت الجناحين العراقي والسوري في حزب البعث من إنجاح انقلابيهما، وقد تكون مصرية أو مخططات استخبارية دولية لغايات مفادها زرع حالة من عدم الاستقرار في المشهد السياسي العربي.
ويشير حمزة إلى أن كلا الجناحين السوري والعراقي كانا متحمسين لمشروع وحدة تجمع بلديهما مع مصر، وأرسلا الوفود إلى القاهرة للقاء جمال عبد الناصر وأعضاء قيادته، وباشروا بطرح موضوع الوحدة خلال المفاوضات مع الجانب المصري، لكن المصادر التاريخية تشير إلى أن وفدي بغداد ودمشق فوجئا بعدم تحمس عبد الناصر لمشروع الوحدة الثلاثية.
ويلفت إلى أن عبد الناصر كان يعتقد ضرورة إجراء تقييم للتجربة السابقة قبل الخوض في أي تجارب جديدة، خاصة أن حزب البعث السوري أيد الانفصال حال وقوعه، وفي تلك الأثناء انطلقت مظاهرات حاشدة في دمشق تطالب بإعادة الوحدة ليبدي عبد الناصر استعداده لأي شكل من أشكال التعاون لتحقيق مطلب الجماهير العربية.
ويتابع، بعدها تم الاتفاق على عقد جولة ثانية من المفاوضات في 17 أبريل/نيسان 1963 وانتهت بتوقيع اتفاق الوحدة الثلاثية بين العراق وسوريا ومصر، واستقبلت الجماهير العربية الإعلان عن هذه الوحدة بالهتافات والأغاني وتعالت الزغاريد في بغداد ودمشق والمدن العراقية والسورية كافة، بما يعني أنه كان هناك جو من التفاؤل العام وترحيب كبير بهذه الخطوة.
وينبه حمزة إلى أن أجهزة الإعلام العربية وصفت دولة الوحدة بالقوة الثالثة فهي تضم أقوى الأجنحة العربية وأغناها اقتصاديا وثقافيا وتاريخيا، فالعراق البلد الغني بموارده الاقتصادية وتاريخه العريق وتنوع مكوناته الثقافية ومكانته في النظام الإقليمي العربي سيكون الضامن الأساس لرفاهية شعوب المنطقة الموحدة، وسوريا بموقعها الجغرافي المميز وقوة جيشها وثقافة شعبها، كما أن إمكانيات مصر البشرية وتزعمها للفكرة القومية سيخلق من دولة الوحدة عملاقا بشريا وجغرافيا واقتصاديا وعسكريا يضاهي القوى الإقليمية الموجودة على الساحة العالمية.
مخرجات الوحدة
وركز اتفاق الوحدة الثلاثية على الكثير من القضايا المتعلقة بالعمل القومي ومؤسسات الدولة والركائز الفكرية الجامعة لكل الأطراف وطريقة الإدارة، وفق الباحث في مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل الدكتور فارس تركي.
وبيّن -للجزيرة نت- أنه كان من المفترض أن تقوم دولة اتحادية باسم الجمهورية العربية المتحدة تضم كلا من مصر والعراق وسوريا، وتكون القاهرة عاصمة هذه الدولة، وتكون السيادة فيها للشعب وفقا للدستور، ودينها الرسمي هو الإسلام، ولغتها اللغة العربية، ويتم استبدال الجنسيات القُطرية بجنسية واحدة هي الجنسية العربية، وتختص سلطات الدولة الاتحادية بالسياسة الخارجية والقوات المسلحة والدفاع القومي والأمور المالية والتخطيط الاقتصادي والإعلام والثقافة ورسم وتنفيذ السياسة التربوية وفرض وتطبيق القوانين الموحدة وإدارة الطرق والمواصلات الاتحادية.
ويضيف تركي أنه كانت هناك بنود متعلقة بالعمل القومي وضرورة دعم ونشر الأفكار القومية، والعمل على توحيد القوى الشعبية والأحزاب ذات التوجه العروبي وتنسيق أنشطتها، وفتح المجال لأي دولة تؤمن بمبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية للانضمام إلى الدولة الاتحادية.
ويلفت إلى أنه تم إيلاء مقومات الدولة الاقتصادية والاجتماعية اهتماما كبيرا والتركيز على ضرورة مواجهة وتجاوز الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتخلف، واستبداله بتجربة اشتراكية ناجحة وعادلة تستطيع أن تنافس التجارب الرأسمالية ذات التوجهات الاستعمارية.
من جانبه، يوضح رئيس قسم الدراسات السياسية والإستراتيجية في مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل، الدكتور ميثاق خير الله جلود، أن من أهم ما جاء في بنود الاتفاق أن هذه الوحدة لا تعني حل الأحزاب داخل الدول الثلاث، وهي وحدة اتحادية بين الدول وليست اندماجية، مع تأسيس مجلسين أحدهما يكون على نسبة عدد السكان في كل قطر، والثاني يتكون من عدد متساو من الأعضاء في كل قطر.
ويضيف -للجزيرة نت- أن البلدان الثلاثة اتفقت على انتخاب رئيس الدولة من مجلس الأمة وله 3 نواب كل واحد من قُطر على أن ينتخبوا بالطريقة نفسها، مع بقاء المجالس التشريعية ومجالس الوزراء والرؤساء لكل قُطر إلى جانب الوزارة الاتحادية ومجلس الأمة الاتحادي ورئيس الدولة الاتحادي.
تلاشي الحلم
وعلى الرغم من إعلان عبد الناصر إلغاء اتفاق الوحدة، فإن الاتحاد بقي بين العراق وسوريا، لكن بعد التغيرات السياسية التي حدثت في العراق في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1963 انتهت الوحدة.
ويرى جلود أن سبب فشل الاتحاد يعود إلى العجلة في صهر مؤسسات الدول الثلاث، لذلك لم يصمد الاتحاد أمام المشكلات التي واجهته حيث حددت 5 أشهر لعملية صهر مؤسسات الدول الثلاث وتطبيق ما تم الاتفاق عليه، لكن الاتحاد انهار قبل ذلك.
ويعزو الأسباب الأخرى إلى الحرب بين بغداد والأكراد في شمال العراق، وتفاقم الخلافات بين القيادات في سوريا والرئيس عبد الناصر، ولا سيما بعد أن قامت السلطات في سوريا بإحالة عدد من الضباط الناصريين إلى التقاعد من الجيش السوري، وهذا دفع عبد الناصر لإعلان إلغاء اتفاقية الوحدة من طرف واحد.
ماذا لو نجحت؟
ورغم القوة العسكرية والاقتصادية والمعنوية الكبيرة التي كانت ستحظى بها الجمهورية العربية المتحدة لو استمرت، فإنها -في المقابل- كان من الممكن أن تواجه الكثير من المشاكل والتحديات الكبيرة التي تؤدي إلى تفككها.
ويرى أستاذ تاريخ العراق السياسي المعاصر الدكتور مؤيد الونداوي أن هذا المشروع لو تحقق كان سيواجه عقبات ومصاعب كثيرة، خصوصا أن أعداءه الإقليميين سيتخذون إجراءات جدية ضده.
ويضيف -للجزيرة نت- أن الغرب كان سيقف في وجه أي مشاريع وحدوية جادة، فضلا عن خصوم الفكر القومي من تيارات سياسية أخرى التي كانت ستعمل ضده، وبالتالي لم يكن يتوقع لهذا المشروع أن ينجح، خصوصا أنه قائم على أماني، وليس على شيء راسخ بعمق يمكن أن تبني عليه مستقبلا.
ويبيّن الونداوي أن فكرة عرض المشروع على الرئيس عبدالناصر جاءت مستعجلة من قبل حزب البعث الذي لم يكن قد مضى عليه سوى أسابيع قليلة في السلطة، وهذه مدة قليلة للنظام السياسي الجديد في بغداد ودمشق.
ويذكر بأن الرئيس عبد الناصر كان قد تألم كثيرا من الطريقة التي انهارت بها الوحدة، وكانت درسا لابد من الاستفادة منه في أي مشاريع وحدوية أخرى.
المصدر: الجزيرة نت